والأنف بالأنف ، وأنا أقول لكم : لا تقاوموا الشرّ بالشرّ ، بل من ضرب خدّك الأيمن فحوّل إليه الخدّ الأيسر ، ومن أخذ رداءك فأعطه إزارك ، ومن سخّرك لتسير معه ميلا فسر معه ميلين. (١) وكلّ ذلك أمر بالصبر على الأذى. فالصبر على أذى الناس من أعلى مراتب الصبر ، لأنّه يتعاون فيه باعث الدين وباعث الشهوة والغضب جميعا.
القسم الثالث : ما لا يدخل تحت حصر الاختيار أوّله وآخره ؛ كالمصائب : مثل موت الأعزّة وهلاك الأموال ، وزوال الصحّة بالمرض ، وعمى العين وفساد الأعضاء. وبالجملة سائر أنواع البلاء ، فالصبر على ذلك من أعلى مقامات الصبر.
[٢ / ٣٨٦٣] قال ابن عبّاس رضي الله عنه : الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه ؛ صبر على أداء فرائض الله تعالى ، فله ثلاثمائة درجة. وصبر عن محارم الله تعالى ، فله ستمائة درجة. وصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى ، فله تسعمائة درجة. وإنّما فضّلت هذه الرتبة ، مع أنّها من الفضائل ، على ما قبلها ، وهي من الفرائض ، لأنّ كلّ مؤمن يقدر على الصبر عن المحارم. فأمّا الصبر على بلاء الله تعالى فلا يقدر عليه إلّا الأنبياء ، لأنّه بضاعة الصدّيقين ، فإنّ ذلك شديد على النفس.
[٢ / ٣٨٦٤] ولذلك قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أسألك من اليقين ما تهوّن عليّ به مصائب الدنيا» (٢) فهذا صبر مستنده حسن اليقين.
وقال أبو سليمان : والله ما نصبر على ما نحبّ فكيف نصبر على ما نكره؟
قال المولى الكاشاني : كلام أبي حامد هاهنا ينافي ما ذكره في أوائل هذا الفصل من أنّ الصبر على العافية أشدّ وأفضل من الصبر على البلاء ، وذلك هو الصحيح دون هذا ، وما نقله هاهنا عن ابن عبّاس يخالف ما رويناه بطريق أهل البيت عليهمالسلام فقد روي في الكافي بإسناده إلى عليّ عليهالسلام أنّه قال :
[٢ / ٣٨٦٥] قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الصبر ثلاثة : صبر عند المصيبة ، وصبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية ، فمن صبر على المصيبة حتّى يردّها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدّرجة إلى الدّرجة كما بين السماء والأرض ، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستّمائة درجة ما بين الدّرجة إلى الدّرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش ، ومن صبر عن المعصية كتب الله له
__________________
(١) فيض القدير شرح الجامع الصغير ٤ : ٢٥٩ / ٥٠٠٤.
(٢) الحاكم ١ : ٥٢٨ ؛ النسائي ٦ : ١٠٦ / ١٠٢٣٤.