والانفراد ، فلا ينجيه غيره ، فالصبر على الانفراد أهون من الصبر على السكوت مع المخالطة.
وتختلف شدّة الصبر في آحاد المعاصي باختلاف داعية تلك المعصية في قوّتها وضعفها. وأيسر من حركة اللسان حركة الخواطر باختلاف الوساوس ، فلا جرم يبقى حديث النفس في العزلة ولا يمكن الصبر عنه أصلا إلّا بأن يغلب على القلب همّ آخر في الدين يستغرقه ، كمن أصبح وهمومه همّ واحد ، وإلّا فإن لم يستعمل الفكر في شيء معيّن لم يتصوّر فتور الوسواس عنه.
القسم الثاني : ما لا يرتبط هجومه باختياره ، وله اختيار في دفعه ، كما لو أوذي بفعل أو قول وجني عليه في نفسه أو ماله ، فالصبر على ذلك بترك المكافأة تارة يكون واجبا ، وتارة يكون فضيلة. قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم : ما كنّا نعدّ إيمان الرجل إيمانا إذا لم يصبر على الأذى. وقال تعالى : (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)(١). وقسّم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مرّة مالا ، فقال بعض الأعراب من المسلمين : هذه قسمة ما أريد بها وجه الله! فأخبر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فاحمرّت وجنتاه.
[٢ / ٣٨٦٠] ثمّ قال : «يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» (٢) وقال تعالى : (وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(٣) وقال تعالى : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً)(٤) وقال تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)(٥) الآية وقال تعالى : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(٦) أي تصبروا عن المكافأة. ولذلك مدح الله تعالى العافين عن حقوقهم في القصاص وغيره فقال تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)(٧).
[٢ / ٣٨٦١] وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «صل من قطعك ، وأعط من حرمك ، واعف عمّن ظلمك» (٨).
[٢ / ٣٨٦٢] ورأيت في الإنجيل : قال عيسى بن مريم عليهالسلام : لقد قيل لكم من قبل : إنّ السنّ بالسنّ
__________________
(١) إبراهيم ١٤ : ١٢.
(٢) البخاري ٥ : ١٠٦ ؛ مسلم ٣ : ١٠٩ ؛ البيهقي ٨ : ١٦٧.
(٣) الأحزاب ٣٣ : ٤٨.
(٤) المزّمّل ٧٣ : ١٠.
(٥) الحجر ١٥ : ٩٧ ـ ٩٨.
(٦) آل عمران ٣ : ١٨٦.
(٧) النحل ١٦ : ١٢٦.
(٨) مكارم الأخلاق ، ابن أبي الدنيا : ٢٣ / ٢٠ ؛ مسند أحمد ٤ : ١٤٨ ؛ كنز العمّال ٢ : ٣١٢ / ٤٠٨٩.