الحديث في هذا المقطع من الآيات يكاد يدور حول حادث تحويل القبلة ، والملابسات الّتي أحاطت به ، والدسائس الّتي حاولها اليهود لغرض الوهن في الصفّ المسلم المتراصّ ، محاولة بالمناسبة. وأقاويل أطلقوها من غير هوادة. فجاءت الآيات علاجا لآثار تلك الأقاويل والدسائس ، وطردها عن هواجس نفوس بعض المسلمين ، ولتثبيت اليقين في الصفّ المسلم عموما.
كان المسلمون في مكّة يتّجهون إلى بيت المقدس اتّجاها يجعل الكعبة حيالهم حين التوجّه إلى القدس. لكنّهم بعد الهجرة كان الاتّجاه نحو القدس يحول دون مواجهة الكعبة. ودام ذلك حوالي ستّة عشر أو سبعة عشر شهرا بعد الهجرة. وكان ذلك صعبا على العرب وعلى المسلمين ، حيث مفارقة البيت العتيق!
وقد كان التوجّه إلى بيت المقدس وهو قبلة أهل الكتاب كاد يحزّ من نفوس المسلمين ، كما كان يستفزّ استكبار أهل الكتاب ليروا في ذلك اعتلاء شريعتهم وليتّخذوه ذريعة لرفض الإسلام.
نعم كان الأمر شاقّا على المسلمين العرب ، الّذين ألفوا أن يعظّموا البيت الحرام وأن يجعلوه قبلتهم ، وزاد الأمر مشقّة ذاك التبجّج من اليهود واتّخاذهم ذلك حجّة عليهم.
كما كان الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم يقلّب وجهه في السماء متّجها إلى ربّه ، دون أن ينطق لسانه بشيء ، تأدّبا مع الله ، وانتظارا للفرج والخروج من هذه العسرة ، بما يرضاه ويرتضيه ربّ العالمين.
ثمّ نزل القرآن يستجيب لما يعتمل في صدر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).
وحينما سمع المسلمون بهذا التحويل ازداد فرحهم وعاد الأمل في نفوسهم ، وكان بعضهم في منتصف الصلاة فحوّلوا وجوههم شطر المسجد الحرام في أثناء صلاتهم ، وأكملوا الصلاة تجاه القبلة الجديدة.
عندئذ انطلقت أبواق اليهود ـ وقد عزّ عليهم هذا التحوّل المفاجئ ـ كما فقدوا حجّتهم الّتي كانوا يركنون إليها في تعاظم شريعتهم والتهوين بموضع المسلمين. انطلقت تلقي في صفوف المسلمين وقلوبهم ، بذور القلق والشكّ في ثبات العقيدة. كانوا يقولون لهم : إن كان التوجّه ـ فيما مضى ـ إلى بيت المقدس باطلا فقد ضاعت صلواتكم طوال هذه الفترة. وإن كان حقّا فالتوجّه