ويأخذون فيها العذاب ، فما أخسرها من صفقة وأغباها!
وكفاية عن فضاعة شأنهم قال : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ؟!) فيا لطول صبرهم على النار ، الّتي اختاروها وعهدوا إليها عن قصد لئيم. فيا للتهكّم الساخر من صفاقتهم الشائنة.
وهذا التعاطي الخاسر إنّما كان نتيجة العمه في اختيار الطريق. (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) فمن فاء إليه فهو على الهدى ، وهو في وفاق مع الحقّ ، وفي وفاق مع المهتدين ، وفي وفاق مع الفطرة وناموس الكون الأصيل ، (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) في شريعة الله النازلة بحقّ (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) شقاق مع الحقّ وشقاق مع ناموس الفطرة ، وشقاق فيما بينهم وبين أنفسهم ، ولقد كانوا كذلك ولا يزالون ، وعد الله الّذي يتحقّق على مدار الزمان واختلاف الأقوام. ونرى مصداقه واقعا في كلّ دور وكور على مدى الأيّام.
* * *
[٢ / ٤٣٨٤] أخرج الثعلبي عن ابن عبّاس قال : نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود وعلمائهم ، كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والفضل ، وكانوا يرجون أن يكون النبيّ المبعوث منهم ، فلمّا بعث الله محمّدا صلىاللهعليهوآلهوسلم من غيرهم خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم ، فعمدوا إلى صفة محمّد فغيّروها ، ثمّ أخرجوها إليهم وقالوا : هذا نعت النبيّ الّذي يخرج في آخر الزمان لا يشبه نعت هذا النبيّ ، فإذا نظرت السفلة إلى النعت المغيّر وجدوه مخالفا لصفة محمّد فلم يتّبعوه ، فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ)(١).
[٢ / ٤٣٨٥] وقال الشيخ في تفسير قوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ :) قيل في معناه قولان : أحدهما : لا يكلّمهم بما يحبّون وإنّما هو دليل على الغضب عليهم وليس فيه دليل على أنّه لا يكلّمهم بما يسوءهم لأنّه قد دلّ في موضع آخر فقال : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) وقال : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ. قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) وهذا قول الحسن وواصل وأبي عليّ.
__________________
(١) الدرّ ١ : ٤٠٩ ؛ الثعلبي ٢ : ٤٧ ؛ أسباب النزول للواحدي : ٢٩ ـ ٣٠ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٣٠١ ـ ٣٠٢ ؛ مجمع البيان ١ : ٤٧٧.