قال : لا جرم ليعطينّك الله على قدر ذلك ؛ إنّ الله يعطي على قدر الألم والمصيبة ، وعنده تضعيف كثير. قال الربيع : يا أمير المؤمنين ، ألا أشكو إليك عاصم بن زياد أخي؟ قال : ما له؟ قال : لبس العباء وترك الملاء (١) وغمّ أهله وحزن ولده! فقال عليهالسلام : أدعوا لي عاصما ، فلمّا أتاه عبس في وجهه ، وقال : ويحك ـ يا عاصم ـ أترى الله أباح لك اللذّات وهو يكره ما أخذت منها؟ لأنت أهون على الله من ذلك ، أو ما سمعته يقول : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ)(٢) ثمّ قال : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ)(٣) وقال : (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها)(٤). أما والله ، إنّ ابتذال نعم الله بالفعال أحبّ إليه من ابتذالها بالمقال ، وقد سمعتم الله يقول : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(٥) ، وقوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ)(٦). إنّ الله خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ)(٧) ، وقال : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً)(٨). وقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لبعض نسائه : «مالي أراك شعثاء ومرهاء سلتاء! (٩).
قال عاصم : فلم اقتصرت يا أمير المؤمنين على لبس الخشن وأكل الجشب؟ قال : إنّ الله تعالى افترض على أئمّة العدل أن يقدّروا لأنفسهم بالقوام ، كي لا يتبيّغ بالفقير فقره».
فما قام عليّ عليهالسلام حتّى نزع عاصم العباء ولبس ملاءة.
* * *
قال ابن أبي الحديد : والربيع بن زياد هو الّذي افتتح بعض خراسان ، على عهد عمر ، وكان خيّرا متواضعا متقشّفا في ملبسه ومأكله.
وكان على عهد معاوية على قطعة من خراسان ، فكتب إليه زياد بن أبيه : أنّ معاوية كتب إليّ يأمرك أن تحرز الصفراء والبيضاء ، وتقسّم الخرثيّ (١٠) وما أشبهه على أهل الحرب! فأجابه الربيع :
__________________
(١) الملاء : ثوب ضفضاف ، يلبسه ذوو الشرف.
(٢) الرحمان ٥٥ : ١٩.
(٣) الرحمان ٥٥ : ٢٢.
(٤) فاطر ٣٥ : ١٢.
(٥) الضحى ٩٣ : ١١.
(٦) الأعراف ٧ : ٣٢.
(٧) البقرة ٢ : ١٧٢.
(٨) المؤمنون ٢٣ : ٥١.
(٩) الشعثاء : المغبرّة الشعر ، لا تمتشط ، والمرهاء : التي لا تكتحل. والسلتاء : الّتي لا تختضب.
(١٠) الخرثيّ : أردأ المتاع وسقطه.