يحتجّ عليهم بالقرآن ويدعوهم صباحا ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذبا بسورة. واحدة أو بآيات يسيرة فكلما ازداد تحديا لهم بها وتقريعا لعجزهم عنها ، تكشّف من نقصهم ما كان مستورا وظهر منه ما كان خفيا ، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له : أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف ، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا ، قال فهاتوها مفتريات ، فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر ولا طمع فيه لتكلفه ، ولو تكلفه لظهر ذلك ، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكايد فيه ، يزعم أنه قد عارض وقابل وناقض ، فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم ، واستحالة لغتهم ، وسهولة ذلك عليهم ، وكثرة شعرائهم ، وكثرة من هجاه منهم ، وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته ، لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله وأفسد لأمره وأبلغ في تكذيبه وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس والخروج من الأوطان وإنفاق الأموال ، وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات ، ولهم القصيد العجيب والرجز الفاخر ، والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة ، ولهم الأسجاع والمزدوج ، واللفظ المنثور ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم ، فمحال ـ أكرمك الله ـ أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر والخطأ المكشوف البين ، مع التقريع بالنقص والتوقيف على العجز ، وهم أشد الخلق أنفة ، وأكثرهم مفاخرة ، والكلام سيد عملهم ، وقد احتاجوا إليه والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض فكيف بالظاهر الجليل المنفعة ، وكما أنه محال أن يطبقوا ثلاثا وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة ، فكذلك محال أن يتركوه وهم يعرفونه ويجدون السبيل إليه وهم يبذلون أكثر منه) (١).
(ذلك هو رأي الجاحظ في إقامة الحجّة على وقوع الإعجاز بالقرآن ، وهو رأي كما ترى تقوم بين يديه حجج مشرقة ، وأدلة قاطعة وإن أكثر الذين أقاموا الحجة على إعجاز القرآن من هذا الوجه إنما نظروا إلى رأي الجاحظ هذا ، واعتمدوا عليه ، وداروا حوله) (٢).
٤ ـ ويرد الزرقاني ردا دقيقا على من قال بالصرفة ، وذلك بعد ما عرض شبهة القائلين بها وبدأ بتفنيدها فقال : (... فينقضه الواقع التاريخي أيضا ، ودليلنا على هذا ما
__________________
(١) انظر : الإتقان ، للسيوطي ، ٤ / ٣١٣ ـ ٣١٤.
(٢) الإعجاز في دراسات السابقين ، عبد الكريم الخطيب ، ص : ١٦٤.