المبحث الرابع
عجز المشركين واعترافهم بعظمة القرآن
بعد ما استعرض الحق آيات التحدي في كتابه العظيم ، وطلب منهم أن يأتوا بسورة من مثله وفيهم فحول الشعراء والخطباء الذين ذاع صيتهم وانتشر خبرهم بين الناس ، وإذا بالقوم تستعجم ألسنتهم ، وتهتز أركان البلاغة والبيان لديهم ، فراحوا يتهربون ويتهافتون ومنهم من قد تسربل بقناع الأنفة والاستكبار ، فقال هو وأمثاله كما وصفهم ربنا تبارك وتعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٥) (١).
وقولهم : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (٢).
(وهكذا التمسوا لأنفسهم عذر القعود عن معارضته بأنه أساطير الأولين ، أو قول شاعر مجنون أو هو كذب أعانه على اختلاقه أناس آخرون ، واعتبروا اتهامهم هذا عذرا يسوّغ صمتهم ، ويبرر عجزهم الفاضح عن المعارضة ... يا للمنطق السديد؟ ألا ترى أن هذا التهرب من مواجهة التحدي ومن تقديم المعارضة ليس في الواقع إلا إقرارا منهم بالعجز وأي إقرار) (٣)؟
يقول الإمام الباقلاني : (فلو كان هذا القرآن من ذلك القبيل : الشّعر أو من الجنس الذي ألفوه ، لم تزل أطماعهم عنه ، ولم يدهشوا عند وروده عليهم ، فكيف وقد أمهلهم وفسح لهم في الوقت ، وكان يدعو إليه سنين كثيرة ، قال عز من قائل : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٤).
__________________
(١) سورة الفرقان ، الآيتان ٤ ، ٥.
(٢) سورة الحجر ، الآية : ٦.
(٣) المعجزة الخالدة ، حسن ضياء الدين عتر ، ص : ١٢٨ ـ ١٢٩.
(٤) سورة فاطر ، الآية : ٣٧.