قوله تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) (١) لأن الحق هنا يقرر ضعفهم وتفرده في الخلق والإيجاد ، ولكنه لا ينفي أبدا أن يفتش الإنسان عن المفردات العلمية والكونية ليعلم ماهية بداية الخلق والتكوين.
ولقد عرض لنا القرآن الكريم بداية خلق الكون والمراحل التى مر بها عرضا بيانيا دقيقا ، يصور كل طور من أطوار الخلق بوضوح وجلاء دون لبس أو غموض ، وسوف نستعرض الآيات القرآنية التي تتحدّث عن كل مرحلة ، ونزيّلها بفهم علماء التفسير واللغة ، ثم نحدّد معطياتها ، لنرى مدى التوافق الدقيق بينها وبين ما وصل إليه علماء الفلك والكون في عصرنا الحاضر.
مراحل الخلق
أولا ـ مرحلة الرتق والفتق
يقول تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (٢).
الآية هنا تسترعي انتباه العباد ، وتخلق فيهم الباعث الذي يولد في كينونتهم ، ويثير في ساحة الإدراك والتفكير لديهم حب الاستطلاع والرغبة في البحث والتنقيب عن سرّ انتقال هذا الكون العظيم من دنيا الفناء وعالم اللاشيء ، إلى طور التخلق فالقرار ثم الحياة ، ثم إن انبلاج هذا الكون من تلافيف العدم إلى حيّز الوجود وميدان الإدراك ، ليتطلّب من البشر أن يسخّروا ما أوتوا من قوة عقلية وعلمية ومادية ، في سبيل التعرف على خلق هذا الكون ، والوقوف عند المادة الأم التي تشكل الكون منها بأسره.
والآية تشير إلى أن السموات والأرض ، أي الكون وما بثّ في أرجائه من نجوم ومجرات وكواكب وشموس وأقمار كان شيئا واحدا ، كان مادة واحدة ، كتلة واحدة ثم انشطرت هذه المادة وفتقت وتفجرت ، فانفصلت السموات عن الأرض ، وتباعدت أجزاؤها وأصبحت عالما عظيما مترامي الأطراف ، بعيد المدى ، واسع الرحاب ، وقوله سبحانه وتعالى : (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) تعبير دقيق ومشهد رائع ، يأخذ بالألباب
__________________
(١) سورة الكهف ، الآية : ٥١.
(٢) سورة الأنبياء ، الآية : ٣٠.