وفي «روح المعاني» : ((شامِخاتٍ) مرتفعات ، ومنه شمخ بأنفه ، ووصف جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مطرد ، كأشهر معلومات وتنكيرها للتفخيم ، أو للإشعار بأن في الأرض جبالا لم تعرف ولم يوقف عليها ، فأرض الله تعالى واسعة وفيها ما لم يعلمه إلا الله عزوجل ، وقيل : للإشعار بأن في الجبال ما لم يعرف وهو الجبال السماوية ، وهو مما يوافق أهل الفلسفة الجديدة إذ قالوا بوجود جبال كثيرة في القمر ، وظنّوا وجودها في غيره ، وتعقب بأنه تفسير بما لم يعرف (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) أي عذبا ، وذلك بأن خلقناه في أصولها ، وأجريناه لكم منها في أنهار ، وأنبعناه في منابع تستمد مما استودعناه فيها ، وقد يفسر بما هو أعم من ذلك ، والماء المنزل من السماء) (١).
وفي تفسير «أنوار التنزيل» : ((وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) جبالا ثوابت طوالا والتنكير للتفخيم ، أو الإشعار بأن فيها ما لم يعرف ولم ير ، وقوله تعالى : (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) بخلق الأنهار والمنابع فيها) (٢).
ويقول الإمام الرازي : (من الاستدلال بأحوال الجبال ، أن بسببها تتولد الأنهار على وجه الأرض وذلك أن الحجر جسم صلب ، فإذا تصاعدت الأبخرة من قعر الأرض ووصلت إلى الجبل احتبست هناك فلا تزال تتكامل ، فيحصل تحت الجبل مياه عظيمة ، ثم إنها لكثرتها وقوتها تثقب وتخرج وتسيل على وجه الأرض ، فمنفعة الجبال في تولد الأنهار هو من هذا الوجه ، ولهذا السبب ففي أكثر الأمر أينما ذكر الله الجبال قرن بها ذكر الأنهار مثل ما في هذه الآية) (٣).
إن الإنسان ليصاب بالدهشة عند ما يقرأ تفسير هؤلاء العلماء رضي الله عنهم ، وهم يتحدثون عن هذه الحقائق العلمية الجيولوجية منذ قرون مضت ، ولم يكن في عصرهم ولا حتى بعدهم بقرون الآليات والمعدات التقنية المتطورة ، التي من شأنها أن تكشف عن أسرار المياه وارتباطها بالجبال الشامخات ، ولكنهم يستلهمون هذه المعطيات العلمية من وحي القرآن العظيم ، الذي حوى علم الأولين وعلم الآخرين.
__________________
(١) روح المعاني ، للآلوسي ، ٢٨ / ١٧٨ ، وانظر : فتح الرحمن في تفسير القرآن ، عبد المنعم تعليب ، القاهرة ، دار السلام ، الطبعة الأولى ١٤١٦ ه / ١٩٩٥ ، ٧ / ٣٨٣٦.
(٢) أنوار التنزيل ، للبيضاوي ، ٥ / ٤٣٣.
(٣) التفسير الكبير ، للرازي ، ١٩ / ٨ ، وانظر : تفسير مجاهد ، مجاهد بن جبر المخزومي ، تحقيق ، عبد الرحمن السورتي ، بيروت ، المنشورات العلمية ، د. ت ، ٢ / ٧١٦.