ويبدأ بعرض أمثلة يوضح فيها سبق القرآن في تسجيل بعض قواعد العلوم وإعجازه في ذلك ومن هذه الأمثلة التي ذكرها تعقيبه على قوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) (١).
فيقول : (قال الأقدمون في ظل ما كان متوفرا لديهم من حقائق العلم أن (لَواقِحَ) هنا إنما تشير إلى تلقيح الرياح لبعض النباتات لكي تثمر أو يوجد الثمر ، وهذه حقيقة قائمة لم تتغير لأن الرياح كانت ولا زالت وسوف تستمر في تلقيح بعض النباتات لتوجد الثمر ، وفي ظل الآفاق الواسعة التي فتحها أمامنا عصر العلم اتضح للعلماء وثبت لديهم أن الرياح هي التي تثير السحاب وتكونه ، مصدقا لبيانه تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (٢) والقرآن الكريم هو أول كتاب على الإطلاق قرر تلك الحقيقة العلمية ، وفي ظل تلك القضايا العلمية الهامة يستمر القرآن الكريم فيفرق بين السحاب الذي يمطر والسحاب الذي لا يمطر معلنا في إعجاز علمي أخّاذ أن نزول المطر إنما يتم عن طريق تلقيح الرياح للسحاب ، (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) ولقد ثبت علميا أن السحب لكي تمطر يجب أن تستمر الرياح وتدأب على تلقيحها أو إمدادها بجسيمات عناصر المطر وهي بخار الماء ونوى التكاثف وبخار الماء عبارة عن جزئيات منفصلة من الماء ، تحملها الرياح من أسطح البحار والمحيطات وتصعد بها إلى مناطق إثارة السحب لكي تتجمع من جديد على جسيمات صغيرة أخرى تذروها الرياح وتعرف باسم «نوى التكاثف».
وهذا التفسير الجديد إنما يربط بين أجزاء الآية الكريمة ويجعلها واضحة المعنى ، حيث تكون الفاء في قوله : (فَأَنْزَلْنا) هي فاء السببية ، أي نجم عن هذا التلقيح إخصاب السحاب ، ومن ثم نزول الماء العذب وهو المطر) (٣).
٢ ـ وعند ما يفسر قوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٤) يقول : (قال الأقدمون : إن هذه الآية الكريمة تشير إلى حقيقة ما لدى الخالق من عظيم القدرة
__________________
(١) سورة الحجر ، الآية : ٢٢.
(٢) سورة الروم ، الآية : ٤٨.
(٣) انظر : الإسلام وقوانين الوجود ، محمد جمال الفندي ، ص : ٥٦.
(٤) سورة الذاريات ، الآية : ٤٧.