أهل الجنة فيها يتنعّمون ، وأهل النار فيها يعذّبون ، هؤلاء في السّندس والحرير يتبخترون ، وهؤلاء في الجحيم والسّعير يتقلّبون ، هؤلاء تحشى جماجمهم بمسك الجنان وهؤلاء يضربون بمقامع النيران ، هؤلاء يعانقون الحور في الحجال ، وهؤلاء يطوّقون أطواقا في النار بالأغلال ، في قلبه ، فزع قد أعيى الأطباء ، وبه داء لا يقبل الدواء.
يا من يسلّم إلى الدود ، ويهدى إليه ، اعتبر بما تسمع وترى ، وقل لعينك تجفو لذّة الكرى ، وتفيض من الدموع بعد الدموع تترى ، بيتك القبر بيت الأهوال والبلى ، وغايتك الموت يا قليل الحياء.
اسمع ـ يا ذا الغفلة والتصريف ـ من ذوي الوعظ والتعريف ، جعل يوم الحشر يوم العرض والسّؤال ، والحباء (١) والنّكال ، يوم تقلب إليه أعمال الأنام ، وتحصى فيه جميع الآثام ، يوم تذوب من النفوس أحداق عيونها ، وتضع الحوامل ما في بطونها ، ويفرّق بين كل نفس وحبيبها ، ويحار في تلك الأهوال عقل لبيبها ، إذ تنكّرت الأرض بعد حسن عمارتها ، وتبدلت بالخلق بعد أنيق زهرتها ، أخرجت من معادن الغيب أثقالها ، ونفضت إلى الله أحمالها.
يوم لا ينفع الجدّ ، إذا عاينوا الهول الشديد فاستكانوا ، وعرف المجرمون بسيماهم فاستبانوا ، فانشقّت القبور بعد طول انطباقها ، واستسلمت النفوس إلى الله بأسبابها ، كشف عن الآخرة غطاؤها ، وظهر للخلق أنباؤها ، فدكّت الأرض دكّا دكّا ، ومدّت لأمر يراد بها مدّا مدا ، واشتدّ المثارون إلى الله شدّا شدّا ، وتزاحفت الخلائق إلى المحشر زحفا زحفا ، وردّ المجرمون على الأعقاب ردّا ردّا ، وجدّ الأمر ـ ويحك ، يا إنسان! ـ جدّا جدا ، وقرّبوا
__________________
(١) حبوت الرجل حباء : أعطيته الشيء بغير عوض. «مجمع البحرين ـ حبا ـ ج ١ ، ص ٩٤».