يمكن أن يقال إن هذا الكلام خرج على ما كانت العرب تعتقده من مخاطبة الجن ، وما يروون لهم من الشعر ، ويحكون عنهم من الكلام ، وقد علمنا أن ذلك محفوظ عندهم ، منقول عنهم ، والقدر الذي نقلوه من ذلك قد تأملناه ، فهو في الفصاحة لا يتجاوز حد فصاحة الإنس ، ولعله يقصر عنها ، ولا يمتنع أن يسمع كلامهم ، ويقع بينهم وبينهم محاورات في عهد الأنبياء صلوات الله عليهم ، وذلك الزمان مما لا يمتنع فيه وجود ما ينقض العادات ، على أن القوم إلى الآن يعتقدون مخاطبة الغيلان ، ولهم أشعار محفوظة مدونة في دواوينهم.
ومعنى سادس وهو : أن الذي ينقسم عليه الخطاب من البسط والاقتصاد ، والجمع والتفريق والاستعارة والتصريح ، والتجوز والتحقيق ، ونحو ذلك من الوجوه التي توجد في كلامهم موجودة في القرآن ، وكل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم في الفصاحة والإبداع والبلاغة وقد ضمنا بيان ذلك من بعد لأن الوجه هاهنا ذكر المقدمات دون البسط والتفصيل.
ومعنى سابع وهو : أن المعاني التي تضمنها في أصل وضع الشريعة والأحكام والاحتجاجات في أصل الدين والرد على الملحدين على تلك الألفاظ البديعة ، وموافقة بعضها بعضا في اللطف والبراعة مما يتعذر على البشر ويمتنع وذلك أنه قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة ، والأسباب الدائرة بين الناس أسهل وأقرب من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة ، وأسباب مؤسسة مستحدثة ، فإذا برع اللفظ في المعنى البارع كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر والأمر المتقرر المتصور ، ثم انضاف إلى ذلك التصرف البديع في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه ويراد تحقيقه بأن التفاضل في البراعة والفصاحة ، ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى والمعاني وفقها لا يفضل أحدهما على الآخر فالبراعة أظهر والفصاحة أتم.
ومعنى ثامن وهو : أن الكلام يتبين فضله ورجحان فصاحته بأن تذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام أو تقذف ما بين شعر فتأخذها الأسماع ، وتتشوف إليها النفوس ، ويرى وجه رونقها باديا غامرا سائر ما تقرن به ، كالدرة التي ترى في سلك من خرز ، وكالياقوتة في واسطة العقد ، وأنت ترى الكلمة من القرآن يتمثل بها في تضاعيف كلام كثير ، وهي غرة جميعه ، وواسطة عقده ، والمنادي على نفسه بتميزه ، وتخصصه برونقه وجماله ...