سقط الزند الواقع ، والثاني والثالث عن أطيب العرف نافث ، وهو نديم الملوك في القصور ، وخديم ربات الشنوف في الخدور ، وحقير المقدار ، جليل الاعتبار ، وأقواله مؤثرة في قلب عنتر ، مع أنه صغير ضعيف الجثمانية مغتر ، فهل يخفى بعد شرح هذه الأمور ، ولكن الخفاء في شدة الظهور ، فجد مجيبا مجيدا ، لا برحت مفيدا سعيدا.
فأجابه ملغزا له في بازي بقوله :
راسلتني لأبرح عندليب الفصاحة صادحا على أفنان رياض مراسلتك ، وقمر البراعة لائحا من أفق أفلاك عبارتك ، وحمى الفضل محميا بسمهري أقلامك ، وجيد الأدب محلّى بدرر عقود نظامك ، وإن لي قريحة قريحة بصروف حوادث الزمن ، وفكرة جريحة من معاناة خطوب هذه المحن ، وأدرت على سمعي من سلاف ألفاظك ما هو عندي أرق من نسيم الصّبا ، وأهديت إلى فكرتي من نفائس صنائعك ما ذكرتني به زمان اللهو والصّبا ، وأتحفتني ببدائع ما أحمر الورد إلا خجلا من بهجتها ، ولا اصفرت الصهباء إلا حسدا لما شاهدته من استيلائها على العقل وسطوتها ، لا غرو أنها صدرت من قس الفصاحة وقاضيها الفاضل ، وأتت من رئيس هذه الصناعة وإمامها المشار إليه بالأنامل ، فادخرتها تحفة للوارد والصادر ، ورقمتها بقلم الفكر على لوحة الخاطر ، فأماطت النقاب وأزالت الحجاب عن اسم مطرب ما زال يغرد في الرياض بين الأفنان ، ويحرك بصوته الشجي ما سكن في خواطر الولهان ، ويتعشق الورود لشبهها بخدود الملاح ، ويراقبها مرا قبة المهجور في الاغتباق والاصطباح ، طالما جنى عليه لسانه فحبسوه وضيقوا عليه ، ومن عجيب أمره أنه لم يحبس إلا لزيادة محبته وشدة الميل إليه ، صحف النصف الأول منه تجده عبدا عن الخدمة لا يحول ، وإذا شئت قلت عيد بالمسرة والهناء موصول ، وربما أظهر لك غيداء ممنعة الحجاب ، وأبدى لك بقلب بعضه عذب الرضاب واحذف ثلثا منه تجده عندي موجودا ، كما أن ذلك الثلث المحذوف ما زال مني في هوى الحسان مفقودا. وإن صحفت ثلثيه وقلبتها قلب كل أرتك لديغا بعقرب السالف ، أو قلبتها قلب بعض أبدت لك اسم شاعر من شعراء الزمن السالف ، وإن صحفت نصفه الأخير قلت ليته من هذا التصحيف خالص ، فإنه يظهر لك ليثا ترتعد منه الفرائص. وربما ظهر لك بأوله ورابعه وخامسه أنه عليّ المقام ، وبثانيه وثالثه وخامسه ندى عرف يحسن فيه الختام. فأجبر جابر هذه الصناعة كسر هذا الجواب ، وألق عليه من أكسير قبولك ما يروج به عند بني الآداب.