ويسكر العقول بمعانيه الساحرة ، ينظم فيأتي بكل عجيبة ، ويشنف الأسماع بكل غريبة ، وينثر فيفتض أبكار الدقائق بنظره الثاقب ، ويجلي غياهب المشكلات بفكره الثاقب ، وقد تقمص جلابيب المعارف في عنفوان عمره ، فأسبغت عليه ظلها الوارف من ابتداء أمره. وقد توجه إلى الروم مقدرا أن يبلغ كل مروم ، ولم يعلم أن الحظوظ ليست بالعلوم.
قال : لما ضاقت رقاع بلادي ، ونفدت حقيبة زادي ، فوّقت سهام الاحتيال ، وأجلت قداح الفال ، فكان معلاها السفر ، سفينة النجاة والظفر ، طفقت أتوكأ على عصا التيسار ، وأقتحم موارد القفار ، أفري فلاة يبعد دونها مسرى النعيّ ، وألطم خدود الأرض بأيدي المطيّ ، فكنت فتى قذفته رقة الحال على بريد النوى ، وأعتقته الهمة العاقرة وألقحت بعزمه لواقح المنى ، أساير عساكر النجوم والأفلاك ، وقد ركز الليل رمح السماك ، فأنخت بمخيم المجد ، وقرارة ماء السعد ، كعبة الأفاضل إلا أنهم يحجون إليها كل آن ، وسوق عكاظهم إلا أنها تنصب فيها مصاقع الروم لا مصاقع عدنان. فلما ألقتني فيها أرجوحة المقادير ، فإذا هي فلك العز ومطلع التدبير ، إلا أن حالي تقسمت فيها بين الاغتراب والاضطراب والاكتئاب أثلاثا ، فما نزلت منها منازل إلا حسبتها عليّ أجداثا ، وسقتني الدردي من أول دنها ، وسوء العشرة من باكورة فنها. كل هذا وأنا أستلين مس خشونتها ، وأسيغها على كدورتها ، وأقول إذا لم تتم الصدور فتتم العواقب ، وإن لم تريّش القوادم فستريّش الخوافي والجوانب.
ثم أنشد له قوله من قصيدة نبوية مطلعها :
سقى الله ذات الشيخ والعلم والفردا |
|
وحيا الحيا وجه البشامة والزندا |
وما طلبي السقيا لها عن ظما بها |
|
ولكن بسقياها بقلبي أرى بردا |
ومنها :
وحلت خيوط الغاديات يد الصبا |
|
على أنها من قبل قد أحكمت عقدا |
وقد أوقدت في مجمر الزهر عنبرا |
|
يمين شمال من براد الندى أندى |
ذكرت بها ريا الحبيب وساعة |
|
بها ابيضّ وجه الدهر من بعد ما اسودّا |
حبيب زنت عيني بعين جماله |
|
فصيرت تزويج السهاد لها حدّا |
ومنها :