ثم اختص بعده من بين رؤساء حلب يسميّه محمد الشهير بابن العلبي وقد تولى إمارة لواء عزاز ، فتلقاه بإكرام وإعزاز ، وفوض إليه أمر الكتابة ، فتوسد حضرته وافترش أعتابه ، وهي حضرة تردها الناس عفاة ، وتصدر عنها كفاة ، إذ صاحبها من أسرة أيديهم للكرم والسماحة ، ووجوههم للوضاءة والصباحة ، وهم بيت مال للمسلمين ، إلا أنهم جمعوه بكد اليمين وعرق الجبين ، إذ كانوا أهل سفر وتجارة ، يضربون بآباط الإبل إلى أكباد البلاد ، مع أنه مطامح الأعين النظارة. وبالجملة كانت الشهباء تتجمل بهم وتضرب برياستهم الأمثال ، إلا أنه الآن قد أقفر قصرهم وعاد أثاثهم مقصورا على الآثار دون الرجال.
ولنرجع إلى تتمة خبر صاحب الترجمة : فلما عزل مخدومه المزبور عن لواء عزاز قصد صاحب الترجمة الأمير حسين بن الأعوج صاحب حماه ، وفيها دعاه داعي حماة فلباه غريبا في سنة اثنتين وثلاثين وألف. ومن غريب الاتفاقيات ما أخبرنا صاحبنا الأديب الشيخ عبد القادر الشهير بابن الطبّال الحموي رحمهالله تعالى : لما انتقل صاحب الترجمة إلى جوار ربه فكرت في نظم تاريخ لوفاته لما كان بيننا من المودة المنسوجة التي هي وراء لحمة الأدب الآكد من لحمة النسب ، فنمت في تلك الليلة ، فرأيته في منامي وهو يقول لي : أنا تاريخ وفاتي كتبته بالأقلام ، فاستيقظت فحسبته فإذا هو كما قال طبق النعل بالنعل. انتهى. ولا أدري هل أدخل هذا الكلام في كفة الميزان أم أبقاه على حاله ، وبالجملة فقد رأى وسنان ما لم يختلج بباله وهو يقظان.
ومما وقع اختياري من عيون ديوانه وآثار بنانه قوله بمدح المولى كمال الدين داش كبري بقوله :
سقاك الحيا ريّا وحيّاك أربعا |
|
نعمنا بنعمان بهن ولعلعا |
وجادك جود الدمع يا سفح رامة |
|
بسفح إذا ضن السحاب وأقلعا |
فكم مر لي عيش بظلك حاليا |
|
سرى غير مذموم حميدا وأسرعا |
بخمصانة غيداء سحر جفونها |
|
يدير علينا البابليّ المشعشعا |
بدت ومضاهي البدر تحت قناعها |
|
فلو لا التقى صدقت فيها المقنّعا |
وقوله المقنع أراد ابن المقنّع الخراساني الساحر المشهور الذي يظهر قمرا بقوة سحره أيام سرار القمر فيضيء في الأفق مسيرة شهر. وما أحسن ما قال بعضهم :