طويل قد مر ذكره ـ : «وكان خازن فرعون مؤمنا بموسى ، قد كتم إيمانه ستمائة سنة ، وهو الذي قال الله : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ)(١) ، وبلغ فرعون خبر قتل موسى الرجل ، فطلبه ليقتله ، فبعث المؤمن إلى موسى عليهالسلام : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْها) ، كما حكى الله : (خائِفاً يَتَرَقَّبُ) ـ قال ـ يلتفت يمنة ويسرة ، ويقول : (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
ومرّ نحو مدين ، وكان بينه وبين مدين مسيرة ثلاثة أيّام ، فلمّا بلغ باب مدين ، رأى بئرا يستقي الناس منها لأغنامهم ودوابهم ، فقعد ناحية ، ولم يكن أكل منذ ثلاثة أيام شيئا ، فنظر إلى جاريتين في ناحية ، ومعهما غنيمات ، لا تدنوان من البئر ، فقال لهما : ما لكما لا تستقيان؟ قالتا ، كما حكى الله : (لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) ، فرحمهما موسى ، ودنا من البئر ، فقال لمن على البئر : أستقي لي دلوا ، ولكم دلوا ، وكان الدلو يمدّه عشرة رجال ، فاستقى وحده دلوا لمن على البئر ودلوا لبنتي شعيب ، وسقى أغنامهما (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) وكان شديد الجوع.
قال أمير المؤمنين عليهالسلام : إنّ موسى كليم الله حيث سقى لهما ، ثمّ تولّى إلى الظلّ ، فقال : ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خير فقير ، والله ما سأل الله إلا خبزا يأكل ، لأنّه كان يأكل بقلة الأرض ، ولقد رأوا خضرة البقل في صفاق بطنه ، من هزاله.
فلمّا رجعت بنتا شعيب إلى شعيب ، قال لهما : أسرعتما الرّجوع!
__________________
(١) غافر : ٢٨.