ورئيس الأطباء العالم الذكي المشتهر بابن المكي.
ثم انتقل من تلك العامرة ماشيا إلى القاهرة واشتغل فيها على العالم الجليل المقدار الشيخ المشتهر بابن عبد الغفار وأخذ منه الحكميات وعلوم الرياضيات وسائر العلوم العقلية قاطبة بالدروس الراتبة. وأخذ الحديث وسائر علوم الدين عن القاضي زكريا شيخ المفسرين فأصبح وهو لناصية العلوم آخذ وحكمه في ممالك الفنون نافذ. وتنقلت به الأحوال وتأخرت عنه الأمثال ، وفاق على الأقران وسار بذكره الركبان.
ولما كانت فضائله ظاهرة عند سلطان القاهرة أحب رؤيته واستدعاه ورفع منزلته وأكرم مثواه ، ثم جعله معلما لابنه ومربيا لغصنه. ولما وقع بين مخدومه وبين سلطان الروم من المنافسة حضر الوقعة المعروفة من جانب الجراكسة ، فلما التقى الجمعان وتراءت الفئتان وتقدم الأبطال وتهمهم الرجال وهجم ليوث الأروام وأسود الآجام على ذئاب الأعادي وثعالب البوادي وكتبوا بأقلام السمر أحاديث الجرح والسقام ، وأوصلوا إليهم أخبار الموت برسل السهام ، وأرسلوا عليهم شواظا من نار ، وأحلوا أكثرهم دار البوار ، وأخذ الصواعق والبروق في اللمعان والشروق ، وأمطر عليهم السماء الحديد والحجارة ، وضيق عليهم هذه الدارة ، وسالت بدمائهم الأباطح ، وشبعت من لحومهم الجوارح ، لم يثبت الجراكسة إلا ساعة من النهار ، ثم بدّلوا الفرار من القرار ، وجعلوا أمام عسكر الروم يتواثبون ، وهم من ورائهم بهذا القول يتخاطبون.
جعلنا ظهور القوم في الحرب أوجها |
|
وقمنا بها ثغرا وعينا وحاجبا |
وقتل الغوري في المعركة ولم يعرف له قاتل ، وأسر ابنه والمولى المرحوم. ولما جيء بهما إلى السلطان سليم خان عفا عنهما وقابل جرمهما بالإحسان.
ثم لما عاد إلى ديار الروم بعد فراغه من أمر مصر استصحب ابن الغوري والمولى المرحوم ، فاستوطن قسطنطينية وشرع في إشاعة المعارف وإذاعة النوادر واللطائف ، واشتغل عليه كثير من السادة وفازوا منه بالاستفادة ، وقد تشرفت برؤيته وتبركت بصحبته.
توفي رحمهالله سنة إحدى وسبعين وتسعمائة.