بالعجائب ، وربما ينكر الفقهاء أنهم على شيء من المقامات لما يرون من سقوط التكليف عنهم ، والولاية لا تحصل إلا بالعبادة ، وهو غلط ، فإن فضل الله يؤتيه من يشاء ، ولا يتوقف حصول الولاية على العبادة ولا غيرها ، وإذا كانت النفس الإنسانية ثابتة الوجود فالله تعالى يخصها بما شاء من مواهبه.
وهؤلاء القوم لم تعدم نفوسهم الناطقة ولا فسدت كحال المجانين ، وإنما فقد لهم العقل الذي يناط به التكليف ، وهي صفة خاصة للنفس ، وهى علوم ضرورية للإنسان يشتد بها نظره ويعرف أحوال معاشه واستقامة منزله ، وكانه إذا ميز أحوال معاشه واستقامة منزله لم يبق له عذر في قبول التكاليف لإصلاح معاده ، وليس من فقد هذه الصفة بفاقد لنفسه ولا ذاهل عن حقيقته ، فيكون موجود الحقيقة معدوم العقل التكليفي الذي هو معرفة المعاش ، ولا استحالة في ذلك ، ولا يتوقف اصطفاء الله عباده للمعرفة على شيء من التكاليف. وإذا صح ذلك فاعلم أنه ربما يلتبس حال هؤلاء المجانين الذين تفسد نفوسهم الناطقة ويلتحقون بالبهائم ، ولك في تمييزهم علامات ، منها أن هؤلاء البهاليل تجد لهم وجهة مالا يخلون عنها أصلا من ذكر وعبادة ، ولكن على غير الشروط الشرعية لما قلناه من عدم التكليف ، والمجانين لا تجد لهم وجهة أصلا. ومنها أنهم يخلقون على البله من أول نشأتهم ، والمجانين يعرض لهم الجنون بعد مدة من العمر لعوارض بدنية طبيعية ، فإذا عرض لهم ذلك وفسدت نفوسهم الناطقة ذهبوا بالخيبة. ومنها كثرة تصرفهم في الناس بالخير والشر لأنهم لا يتوقفون على إذن لعدم التكليف في حقهم ، والمجانين لا تصرف لهم ا ه.
وقال فريد وجدي في كتابه «كنز العلوم واللغة» : من الناس من يزعم أن النواميس الطبيعية لا تتخلف عن إحداث آثارها مطلقا ، وكل ما يروى لهم من الخوارق يكذبون به أو يؤولونه ، وليس لهم على ذلك من حجة ناهضة إلا دعواهم بأن لا موجود غير المادة المحسوسة وما غاب عن حسهم فما هو إلا قواها وحركاتها.
وهذه دعوى لا تليق أن تقال على هذا الأسلوب الكبريائي إلا ممن يكون قد حضر خلقة الكون من أوله إلى آخره (١) وعلم أن لا موجود فيه غير ما تحسه مشاعرنا القاصرة ، ولكن هنالك رجال قام الوجود نفسه بالشهادة لصدقهم ، قالوا : إن لله ملائكة ومخلوقات
__________________
(١) والله تعالى يقول في كتابه المبين : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ).