مدارك في الغيب على سبيل الكرامة معروفة.
وبعد أن تكلم على هذه الإدراكات واحدة واحدة قال : ومن الناس من يحاول حصول هذا المدرك الغيبي بالرياضة فيحاولون بالمجاهدة موتا صناعيا بإماتة جميع القوى البدنية ، ثم محو آثارها التي تلونت بها النفس ، ثم تغذيتها بالذكر لتزداد قوة في نشئها. ويحصل ذلك بجمع الفكر وكثرة الجوع. ومن المعلوم على القطع أنه إذا نزل الموت بالبدن ذهب الحس وحجابه واطلعت النفس على ذاتها وعالمها ، فيحاولون ذلك بالاكتساب ليقع لهم قبل الموت ما يقع لهم بعده ، وتطلع النفس على المغيبات. ومن هؤلاء أهل الرياضة السحرية يرتاضون بذلك ليحصل لهم الاطلاع على المغيبات والتصرفات في العوالم ، وأكثر هؤلاء في الأقاليم المنحرفة جنوبا وشمالا خصوصا بلاد الهند ، ويسمون هناك الحوكية ، ولهم كتب في كيفية هذه الرياضة كثيرة ، والأخبار عنهم في ذلك غريبة.
وأما المتصوفة فرياضتهم دينية وعريّة عن هذه المقاصد المذمومة ، وإنما يقصدون جمع الهمة والإقبال على الله بالكلية ليحصل لهم أذواق العرفان والتوحيد ، ويزيدون في رياضتهم إلى الجمع والجوع التغذية بالذكر ، فبها تتم وجهتهم في هذه الرياضة ، لأنه إذا نشأت النفس على الذكر كانت أقرب إلى العرفان بالله ، وإذا عرّيت عن الذكر كانت شيطانية. وحصول ما يحصل من معرفة الغيب والتصرف لهؤلاء المتصوفة إنما هو بالعرض ولا يكون مقصودا من أول الأمر ، لأنه إذا قصد ذلك كانت الوجهة فيه لغير الله ، وإنما هي لقصد التصرف والاطلاع على الغيب ، وأخسر بها صفقة ، فإنها في الحقيقة شرك. قال بعضهم : من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني ، فهم يقصدون بوجهتهم المعبود لا شيء سواه ، وإذا حصل في أثناء ذلك ما يحصل فبالعرض وغير مقصود لهم ، وكثير منهم يفر منه إذا عرض له ولا يحفل به وإنما يريد الله لذاته لا لغيره. وحصول ذلك لهم معروف ، ويسمون ما يقع لهم من الغيب والحديث على الخواطر فراسة وكشفا ، وما يقع لهم من التصرف كرامة ، وليس شيء من ذلك بنكير في حقهم.
(ثم قال) : ومن هؤلاء المريدين من المتصوفة قوم بهاليل معتوهون أشبه بالمجانين من العقلاء ، وهم مع ذلك قد صحت لهم مقامات الولاية وأحوال الصدّيقين ، وعلم ذلك من أحوالهم من يفهم عنهم من أهل الذوق مع أنهم غير مكلفين ، ويقع لهم من الإخبار عن المغيبات عجائب لأنهم لا يتقيدون بشيء فيطلقون كلامهم في ذلك ويأتون منه