بذلك ولا اعتقدوا هذا الاعتقاد ، فإن الأمور الخارقة للعادة من حيث هي أثبتها التاريخ ورواها على طريق التواتر بحيث لا يمكن ردها ، ومؤرخو الإسلام في مشارق البلاد ومغاربها قد دونوها في تواريخهم التي لا تحصى من قديم الزمن وحديثه ، وكتبهم طافحة بذلك ، ويستحيل أن يتواطأ هؤلاء جميعهم على الكذب ، فلا ريب أن مجموع ذلك يفيد العلم الضروري بوقوع هذه الكرامات وحصول تلك المكاشفات ، فهل يسعنا بعد ذلك أن نقول : إن هؤلاء كلهم كانوا كاذبين أو نحكم على الجميع أنهم كانوا قوما بسطاء ينخدعون بهذه الأوهام ، تالله لا يقدم على هذا القول ولا يحكم هذا الحكم الجائر من يجعل التروي رائده والإنصاف هو الحكم الفاصل.
إنك إذا تيقنت أن الله على كل شيء قدير واستحضرت في قلبك مقدار عظمة الله جل جلاله واعتقدت أنه لا يعجزه شيء في عالم الغيب والشهادة ، وأن هذا الإنسان قد انطوى فيه العالم الأكبر ، وأن مظاهره لا تتناهى ولا تقف عند حد لما أودع فيه من جوهر العقل ونور الحكمة ، وأن مزايا البشر بعدد البشر ، هان عليك حصول الأمور الخارقة للعادة من المعجزة والكرامة والإخبار بالمغيبات وسلمت بوقوعها تسليم إيقان.
وها نحن نسوق لك في هذا الموضوع ما يأخذ بيدك إلى مهيع الصواب والحق إذا أمعنت النظر وأطلقت للعقل زمام التدبر بعد أن تستخلصه من شائبة هوى النفس والإعجاب بالرأي ، وإذا لم تثب بعد هذه البراهين الواضحة والدلائل الظاهرة إلى سبيل الرشاد ولم تعد إلى الطريق السوي القويم فأنت معاند مكابر ولا كلام لنا مع المعاندين والمكابرين.
قال العلامة ابن خلدون في مقدمته في بحث حقيقة النبوة وغير ذلك من مدارك الغيب : إنا نجد في النوع الإنساني أشخاصا يخبرون بالكائنات قبل وقوعها بطبيعة فيهم يتميز بها صنفهم عن سائر الناس ، ولا يرجعون في ذلك إلى صناعة ولا يستدلون عليه بأثر من النجوم ولا من غيرها ، إنما تجد مداركهم في ذلك بمقتضى فطرتهم التي فطروا عليها ، وذلك مثل العرافين والناظرين في الأجسام الشفافة كالمرايا وطساس الماء ، والناظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها ، وأهل الزجر في الطير والسباع ، وأهل الطرق بالحصى والحبوب من الحنطة والنوى ، وهذه كلها موجودة في عالم الإنسان لا يسع أحد جحدها ولا إنكارها ، وكذلك المجانين يلقى على ألسنتهم كلمات من الغيب فيخبرون بها ، وكذلك النائم والميت لأول موته أو نومه يتكلم بالغيب ، وكذلك أهل الرياضات من المتصوفة لهم