كون نفس حقيقته في مرتبة الذّات بعينها وجوب التقرّر وتأكّد الوجود وتمام الفعليّة وينبوع الخير ، من أنور البراهين وأبلغها وأوثقها على أنّ نفس مرتبة ذاته ، تعالى ، هي بعينها العلم التّامّ بذاته وبما عدا ذاته على أبسط الوجوه وأبلغها في الظّهور والانكشاف ، والقدرة البالغة على كلّ شيء على أشدّ المراتب وأقواها ، والحياة المحضة على أشرف الأنحاء وأقدسها ، والإرادة المتأكدة لنظام الخير على أكمل الضّروب وأجملها.
والعجب كلّ العجب اجماع الجماهير عامّتهم على إسناد ذلك كلّه إلى كافّة الحكماء من بعد [أن كان] شريكانا السّلفان ، قد نبّها على الحقّ وحقّقا : أنّ البسيط فيه وعنه واحد.
وأوضح [ابن سينا] الأمر فيه ، كما في «تعليقاته» (ص ١١٥) ، حيث قال : «القابل يعتبر فيه وجهان ، أحدهما أن يكون يقبل شيئا من خارج ، فيكون ثمّة انفعال وهيولى يقبل ذلك الشّيء الخارج ، وقابل من ذاته لما هو في ذاته لا من خارج ، فلا يكون ثمّة انفعال. وإن كان هذا الوجه الثاني صحيحا ، فجائز أن يقال على الباري تعالى.»
وقالا : «لا فرق بين أن يوصف جسم بأنّه أبيض ، لأنّ البياض فيه من خارج ، وبين أن يوصف بأنّه أبيض من لوازمه. وإنّما وجد فيه لأنّه لو كان يجوز ذلك في الجسم ، وإذا أخذت حقيقة الأوّل تعالى على هذا الوجه ولوازمه على هذه الجهة استمرّ هذا المعنى فيه. وهو أنّه لا كثرة فيه ، وليس هناك قابل وفاعل ، بل هو من حيث هو قابل هو فاعل. وهذا الحكم مطرد في جميع البسائط ، فإنّ حقائقها هي إنّما تلزم عنها اللوازم وفي ذاتها تلك اللّوازم على أنّها من حيث هي قابلة فاعلة ، فإنّ البسيط فيه وعنه شيء واحد ، إذ لا كثرة فيه ، ولا يصحّ فيه غير ذلك ؛ والمركّب يكون ما عنه غير ما فيه ، إذ هناك كثرة ثمّ وحدة ، وحقيقته أنّه يلزم ذلك ، فيكون عنه وفيه شيئا واحدا ، وكلّ اللّوازم هذا حكمها. فالوحدة في الأوّل تعالى هي عنه وفيه ، والوحدة في غيره واردة عليه من خارج ، فهي فيه لا عنه ، وهناك قابل ، وفي الأوّل تعالى القابل والفاعل شيء واحد» ، فهذا قولهما بألفاظهما.
نعم يصحّ ذلك في الأوّل ، تعالى ، بالقياس إلى ما يلزم حقيقته ويستتبعه كمال ذاته ، لا بالقياس إلى ما هو بهاء حقيقته وجمال إنيّته ؛ إذ كلّ ما هو بهاء معتبر التّقرّر بما هو تقرّر ، وكمال مطلق الوجود بما هو وجود ، فإنّه يجب أن يكون هو بعينه نفس