تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام - ج ١٨

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

فقلت : إلى ما دعا الله ورسوله؟

فسكت هنيّة ثمّ قال : إلى شهادة أن لا إله إلّا الله.

فقلت : فأنا أشهد أن لا إله إلّا الله.

ثمّ قلت : إن جدّك ابن عبّاس يقول :

لمّا قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألوه عن الإيمان فقال : «أتدرون ما الإيمان»؟ قالوا : الله ورسوله أعلم.

قال : «شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله ، وإقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة ، وأن تعطوا الخمس من المغنم» (١).

قال أبي : قال ـ يعني المعتصم ـ لو لا أنّي وجدتك في يد من كان قبلي ما عرضت لك.

ثم قال : يا أبا عبد الرحمن بن إسحاق ، ألم آمرك برفع المحنة؟

فقلت : الله أكبر إنّ في هذا لفرجا للمسلمين.

ثمّ قال لهم : ناظروه ، كلّمه يا أبا عبد الرحمن كلّمه.

فقال لي عبد الرحمن : ما تقول في القرآن؟

قلت له : ما تقول في علم الله؟

فسكت.

فقال لي بعضهم : أليس قال الله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٢) والقرآن أليس هو شيء؟

فقلت : قال الله تعالى : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) (٣) فدمّرت إلّا ما أراد الله.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان ١ / ١٢٠ ، ١٢٥ باب : أداء الخمس من الإيمان ، وفي : العلم ، باب تحريض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم ، ويخبروا من وراءهم. وفي : مواقيت الصلاة ، باب : قول الله تعالى : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ). وفي : الزكاة ، باب : وجوب الزكاة. وفي : الجهاد ، باب : أداء الخمس من الدّين. وفي : الأنبياء ، باب : نسبة اليمن إلى إسماعيل. وفي : المغازي : باب وفد عبد القيس. وفي : الأدب ، باب : قول الرجل مرحبا. وفي : خبر الواحد ، باب : وصاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفود العرب أن يبلّغوا من وراءهم. وفي : التوحيد. باب : قول الله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ). وأخرجه مسلم في الإيمان (١٧) باب : الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشرائع الدين ، والدعاء إليه ، والسؤال عنه.

(٢) سورة الرعد ، الآية ١٦.

(٣) سورة الأحقاف ، الآية ٢٥.

١٠١

فقال بعضهم : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) (١) أفيكون محدث إلّا مخلوقا؟

فقلت : قال الله : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) (٢) فالذّكر هو القرآن. وتلك ليس فيها ألف ولام.

وذكر بعضهم حديث عمران بن حصين أنّ الله عزوجل خلق الذّكر.

فقلت : هذا خطأ ، حدّثنا غير واحد : «إنّ الله كتب الذّكر» (٣).

واحتجّوا

بحديث ابن مسعود : «ما خلق الله من جنّة ولا نار ولا سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسيّ» (٤).

فقلت : إنّما وقع الخلق على الجنّة والنّار والسّماء والأرض ، ولم يقع على القرآن.

فقال بعضهم : حديث خبّاب : يا هنتاه ، تقرّب إلى الله بما استطعت ، فإنّك لن تتقرّب إليه بشيء أحبّ إليه من كلامه.

قلت : هكذا هو.

قال صالح بن أحمد : فجعل أحمد بن أبي دؤاد ينظر إلى أبي كالمغضب ، قال أبي :

وكان يتكلّم هذا ، فأردّ عليه ، ويتكلّم هذا ، فأردّ عليه ، فإذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فيقول : يا أمير المؤمنين هو والله ضالّ مضلّ مبتدع.

فيقول : كلّموه ، ناظروه.

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية ٢.

(٢) أول سورة ص.

(٣) هذا طرف من حديث أخرجه البخاري في أول بدء الخلق ٦ / ٢٠٥ ، ٢٠٧ ، والتوحيد ١٣ / ٣٤٥ ـ ٣٤٧ باب : وكان عرشه على الماء ، عن عمران بن حصين ، قال : دخلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعقلت ناقتي بالباب ، فإذا ناس من بني تميم ، فقال : أقبلوا البشرى يا بني تميم ، قالوا : قد بشّرتنا ، فأعطنا مرتين. ثم دخل عليه ناس من اليمن ، فقال : أقبلوا البشرى يا أهل اليمن ، إذ لم يقبلها بنو تميم. قالوا : قبلنا ، جئناك نتفقّه في الدّين ، ونسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ قال : كان الله ولم يكن شيء غيره ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، وخلق السموات والأرض.

(٤) أورده السيوطي في : الدرّ المنثور ١ / ٣٢٣.

١٠٢

فيكلّمني هذا ، فأردّ عليه ، ويكلّمني هذا ، فأردّ عليه ، فإذا انقطعوا يقول لي المعتصم : ويحك يا أحمد ما تقول؟

فأقول : يا أمير المؤمنين ، أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنّة رسول الله حتّى أقول به.

فيقول ابن أبي دؤاد : أنت لا تقول إلّا ما في كتاب الله أو سنّة رسول الله؟

فقلت له : تأوّلت تأويلا ، فأنت أعلم ، وما تأوّلت ما يحبس عليه وما يقيّد عليه (١).

قال حنبل : قال أبو عبد الله : ولقد احتجّوا عليّ بشيء ما يقوى قلبي ولا ينطلق لساني أن أحكيه. أنكروا الآثار ، وما ظننتهم على هذا حتّى سمعت مقالتهم ، وجعلوا يدعون (٢) ، يقول الخصم : وكذا وكذا. فاحتججت عليهم بالقرآن بقوله : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) (٣) فذمّ إبراهيم أباه أن عبد ما لا يسمع ولا يبصر ، أفهذا منكر عندكم؟

فقالوا : شبّه يا أمير المؤمنين ، شبّه يا أمير المؤمنين.

وقال محمد بن إبراهيم البوشنجيّ : حدّثني بعض أصحابنا أنّ ابن أبي دؤاد يقول : يا أمير المؤمنين ، والله لئن أجابك لهو أحب إليّ من مائة ألف دينار ، ومائة ألف دينار ، ويعدّ من ذلك ما شاء الله أن يعدّ (٤).

فقال المعتصم : والله لئن أجابني لأطلقنّ عنه بيدي ، ولأركبنّ إليه بجندي ، ولأطأنّ عقبه.

ثمّ قال : يا أحمد ، والله إنّي عليك لشفيق ، وإنّي لأشفق عليك كشفقتي على هارون ابني. ما تقول؟

فأقول : أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنّة رسوله. فلمّا طال المجلس

__________________

(١) حلية الأولياء ٩ / ١٩٧ ـ ١٩٩.

(٢) في سير أعلام النبلاء ١١ / ٢٤٧ : «يرغون» بالراء والغين المعجمة.

(٣) سورة مريم ، الآية ٤٢.

(٤) حلية الأولياء ٩ / ٢٠١.

١٠٣

ضجر وقال : قوموا. وحبسني ، يعني عنده ، وعبد الرحمن بن إسحاق يكلّمني.

فقال المعتصم : ويحك أجبني. وقال : ما أعرفك ، ألم تكن تأتينا؟

فقال له عبد الرحمن بن إسحاق : يا أمير المؤمنين أعرفه منذ ثلاثين سنة يرى طاعتك والجهاد والحجّ معك.

قال : فيقول : والله إنّه لعالم ، وإنّه لفقيه ، وما يسوءني أن يكون معي يردّ عنّي أهل الملل (١).

ثمّ قال لي : ما كنت تعرف صالحا الرّشيديّ؟

قلت : قد سمعت باسمه.

قال : كان مؤدّبي ، وكان في ذلك الموضع جالسا ، وأشار إلى ناحية من الدّار ، فسألته عن القرآن فخالفني ، فأمرت به فوطئ وسحب.

ثمّ قال : يا أحمد أجبني إلى شيء لك فيه أدنى مخرج (٢) حتّى أطلق عنك بيدي.

قلت : أعطوني شيئا من كتاب الله وسنّة رسوله.

فطال المجلس وقام ، ورددت إلى الموضع الّذي كنت فيه ، فلمّا كان بعد المغرب وجّه إليّ رجلين من أصحاب ابن أبي دؤاد يبيتان عندي ويناظراني ويقيمان معي ، حتّى إذا كان وقت الإفطار جيء بالطّعام ، ويجتهدان بي أن أفطر ، فلا أفعل (٣).

ووجّه إليّ المعتصم ابن أبي دؤاد في بعض اللّيالي فقال : يقول لك أمير المؤمنين : ما تقول؟

فأردّ عليه نحوا ممّا كنت أردّ.

فقال ابن أبي دؤاد : والله لقد كتبت اسمك في السّبعة ، يحيى بن معين ، وغيره ، فمحوته. ولقد ساءني أخذهم إيّاك. ثمّ يقول : إنّ أمير المؤمنين قد

__________________

(١) في الحلية ٩ / ١٩٩ : «يردّ على أهل الملك».

(٢) في الحلية ٩ / ٢٠٠ : «أدنى فرج».

(٣) حلية الأولياء ٩ / ٢٠٠.

١٠٤

حلف أن يضربك ضربا بعد ضرب ، وأن يلقيك في موضع لا ترى فيه الشّمس (١) ، ويقول : إن أجابني جئت إليه حتّى أطلق عنه بيدي.

وانصرفت ، فلمّا أصبح جاء رسوله فأخذ بيدي حتّى ذهب بي إليه ، فقال لهم : ناظروه وكلّموه.

فجعلوا يناظرونني ، فأردّ عليهم ، فإذا جاءوا بشيء من الكلام ممّا ليس في الكتاب والسّنّة قلت : ما أدري ما هذا.

قال : يقولون : يا أمير المؤمنين إذا توهّمت له الحجّة علينا ثبت (٢). وإذا كلّمناه بشيء يقول لا أدري ما هذا.

فقال : ناظروه.

فقال رجل : يا أحمد أراك تذكر الحديث وتنتحله.

قلت : فما تقول في (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (٣)؟

قال : خصّ الله بها المؤمنين.

قلت : ما تقول إن كان قاتلا أو عبدا؟

فسكت. وإنّما احتججت عليهم بهذا لأنّهم كانوا يحتجّون بظاهر القرآن ، وحيث قال لي : أراك تنتحل الحديث (٤) احتججت بالقرآن ، يعني. فلم يزالوا كذلك إلى قرب الزّوال فلمّا ضجر قال لهم : قوموا ، وخلا بي وبعبد الرحمن بن إسحاق. فلم يزل يكلّمني.

ثمّ قال أبي : فقام ودخل ، ورددت إلى الموضع (٥).

قال : فلمّا كان في اللّيلة الثالثة قلت : خليق أن يحدث غدا من أمري

__________________

(١) حلية الأولياء ٩ / ٢٠١.

(٢) في الحلية ٩ / ٢٠٠ : «وثب» بدل «ثبت».

(٣) سورة النساء ، الآية ١١.

(٤) إلى هنا في حلية الأولياء ٩ / ٢٠٠ ، ٢٠١.

(٥) الحلية ٩ / ٢٠٠.

١٠٥

شيء ، فقلت لبعض من كان معي الموكّل بي : ارتد (١) لي خيطا. فجاءني بخيط ، فشددت به الأقياد ، ورددت التّكّة إلى سراويلي (٢) مخافة أن يحدث من أمري شيء فأتعرّى (٣).

فلمّا كان من الغد في اليوم الثّالث وجّه إليّ ، فأدخلت ، فإذا الدّار غاصّة ، فجعلت أدخل من موضع إلى موضع ، وقوم معهم السّيوف ، وقوم معهم السّياط ، وغير ذلك. ولم يكن في اليومين الماضيين كبير أحد من هؤلاء. فلمّا انتهيت إليه قال : اقعد. ثم قال : ناظروه ، كلّموه (٤).

فجعلوا يناظرونني ، ويتكلّم هذا فأردّ عليه ، ويتكلّم هذا فأردّ عليه ، وجعل صوتي يعلو أصواتهم ، فجعل بعض من على رأسه قائم يومئ إليّ بيده ، فلمّا طال المجلس نحّاني ، ثم خلا بهم. ثمّ نحّاهم وردّني إلى عنده فقال : ويحك يا أحمد ، أجبني حتّى أطلق عنك بيدي. فرددت عليه نحوا ممّا كنت يردّ ، فقال لي : عليك ، وذكر اللّعن.

وقال : خذوه واسحبوه واخلعوه.

قال : فسحبت ثم خلعت (٥).

قال : وقد كان صار إليّ شعر (٦) من شعر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كمّ قميصي ، فوجّه إليّ إسحاق بن إبراهيم : ما هذا المصرور في كمّ قميصك؟

قلت : شعر من شعر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال : وسعى بعض القوم إلى القميص ليخرّقه (٧) عليّ ، فقال لهم ، يعني المعتصم : لا تخرقوه.

فنزع القميص عنّي.

__________________

(١) في الحلية ٩ / ٩٠١ : «أريد».

(٢) في الأصل : «سراويلي».

(٣) في الأصل : «فأتعر».

(٤) حلية الأولياء ٩ / ٢٠١.

(٥) حلية الأولياء ٩ / ٢٠١.

(٦) في الحلية ٩ / ٢٠٢ : «صار إليّ شعرتان».

(٧) في الحلية : «ليحرقه».

١٠٦

قال : وظننت أنّه إنّما دريء عن القميص الخرق بسبب الشّعر الّذي كان فيه.

قال : وجلس المعتصم على كرسيّ ثمّ قال : العقابين والسّياط.

فجيء بالعقابين ، فمدّت يداي ، فقال بعض من حضر خلفي : خذ أي الخشبتين بيديك وشدّ عليهما. فلم أفهم ما قال ، فتخلّعت يداي (١).

وقال محمد بن إبراهيم البوشنجيّ : ذكروا أنّ المعتصم لان في أمر أحمد لما علّق في العقابين ، ورأى ثبوته وتصميمه وصلابته في أمره ، حتّى أغراه ابن أبي دؤاد وقال له : إن تركته قيل إنّك تركت مذهب المأمون وسخطت قوله.

فهاجه ذلك على ضربه.

قال صالح : قال أبي : لمّا جيء بالسّياط نظر إليها المعتصم وقال : ائتوني بغيرها.

ثمّ قال للجلّادين : تقدّموا.

فجعل يتقدّم إليّ الرجل منهم فيضربني سوطين ، فيقول له : شدّ ، قطع الله يدك.

ثمّ يتنحّى ، فيقدم الآخر فيضربني سوطين وهو يقول في كلّ ذلك : شدّ ، قطع الله يدك.

فلمّا ضربت تسع عشر سوطا قام إليّ ، يعني المعتصم ، وقال : يا أحمد ، علام تقتل نفسك؟ إنّي والله عليك لشفيق.

قال : فجعل عجيف (٢) ينخسني بقائمة سيفه وقال : أتريد أن تغلب هؤلاء كلّهم.

وجعل بعضهم يقول : ويلك ، الخليفة على رأسك قائم.

وقال بعضهم : يا أمير المؤمنين دمه في عنقي (٣) ، اقتله.

__________________

(١) حلية الأولياء ٩ / ٢٠٢.

(٢) في الحلية ٩ / ٢٠٢ : «وجعل يعجب وينخسني».

(٣) الحلية ٩ / ٢٠٢.

١٠٧

وجعلوا يقولون : يا أمير المؤمنين أنت صائم وأنت في الشّمس قائم.

فقال لي : ويحك يا أحمد ما تقول؟

فأقول : أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقول به.

فرجع وجلس ، وقال للجلّاد : تقدّم وأوجع ، قطع الله يدك.

ثمّ قام الثانية فجعل يقول : ويحك يا أحمد أجبني (١).

فجعلوا يقبلون عليّ ويقولون : يا أحمد إمامك على رأسك قائم.

وجعل عبد الرحمن يقول : من صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟

وجعل المعتصم يقول : ويحك أجنبي إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتّى أطلق عنك بيدي.

فقلت : يا أمير المؤمنين ، أعطوني شيئا من كتاب الله فيرجع.

وقال للجلّادين : تقدّموا.

فجعل الجلّاد يتقدّم ويضربني سوطين ويتنحّى ، وهو في خلال ذلك يقول : شدّ ، قطع الله يدك.

قال أبي : فذهب عقلي ، فأفقت بعد ذلك ، فإذا الأقياد قد أطلقت عنّي.

وقال لي رجل ممّن حضر : إنّا كببناك على وجهك ، وطرحنا على ظهرك بارية (٢) ودسناك.

قال أبي : فما شعرت بذلك ، وأتوني بسويق فقالوا لي : اشرب وتقيّا.

فقلت : لا أفطر.

ثم جيء بي إلى إسحاق بن إبراهيم ، فحضرت صلاة الظّهر ، فتقدّم ابن سماعة فصلّى ، فلمّا انفتل من الصّلاة قال لي : صلّيت والدّم يسيل في ثوبك؟! (٣).

فقلت : قد صلّى عمر وجرحه يثعب دما.

__________________

(١) الحلية ٩ / ٢٠٢.

(٢) في الحلية ٩ / ٢٠٣ : «سارية».

(٣) في الحلية ٩ / ٢٠٣ : «والدم يسيل من ضربك».

١٠٨

قال صالح : ثمّ خلّي عنه (١) ، فصار إلى منزله. وكان مكثه في السّجن منذ أخذ وحمل إلى ضرب وخلّي عنه ثمانية وعشرين شهرا. ولقد أخبرني أحد الرجلين اللّذين كانا معه قال : يا ابن أخي ، رحمة الله على أبي عبد الله ، والله ما رأيت أحدا يشبهه. ولقد جعلت أقول له في وقت ما يوجّه إلينا بالطّعام : يا أبا عبد الله ، أنت صائم وأنت في موضع تقيّة (٢).

ولقد عطش ، فقال لصاحب الشّراب : ناولني. فناوله قدحا فيه ماء وثلج ، فأخذه ونظر إليه هنيّة ثم ردّه ولم يشرب ، فجعلت أعجب من صبره على الجوع والعطش وهو فيما هو فيه من الهول (٣).

قال صالح : كنت ألتمس وأحتال أن أوصل إليه طعاما أو رغيفا في تلك الأيّام ، فلم أقدر. وأخبرني رجل حضره أنّه تفقّده في هذه الأيام الثّلاثة وهم يناظرونه ، فما لحن في كلمة (٤).

قال : وما ظننت أنّ أحدا يكون في مثل شجاعته وشدّة قلبه (٥).

وقال حنبل : سمعت أبا عبد الله يقول : ذهب عقلي مرارا ، فكان إذا رفع عنّي الضّرب رجعت إلى نفسي. وإذا استرخيت وسقطت رفع الضّرب. أصابني ذلك مرارا ، ورأيته ، يعني المعتصم ، قاعدا في الشّمس بغير مظلّة ، فسمعته وقد أفقت يقول لابن أبي دؤاد : لقد ارتكبت في أمر هذا الرجل.

فقال : يا أمير المؤمنين إنّه والله كافر مشرك ، قد أشرك من غير وجه. فلا يزال به حتّى يصرفه عمّا يريد. وقد كان أراد تخليتي بغير ضرب ، فلم يدعه ولا إسحاق بن إبراهيم ، وعزم حينئذ على ضربي.

قال حنبل : وبلغني أنّ المعتصم قال لابن أبي دؤاد بعد ما ضرب أبو

__________________

(١) إلى هنا في الحلية ٩ / ٢٠٣.

(٢) في الحلية ٩ / ٢٠٣ : «في موضع مسغبة» ، وفي سير أعلام النبلاء ١١ / ٢٥٢ «موضع تفئة» ، والمثبت هنا يتفق مع : مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ٤٠٧.

(٣) الحلية ٩ / ٢٠٣.

(٤) الحلية ٩ / ٢٠٣.

(٥) الحلية ٩ / ٢٠٣.

١٠٩

عبد الله : كم ضرب؟

فقال ابن أبي دؤاد : نيّف وثلاثين أو أربعة وثلاثين سوطا.

وقال أبو عبد الله : قال لي إنسان ممّن كان : ثمّ ألقينا على صدرك بارية.

أكببناك على وجهك ودسناك (١).

قال أبو الفضل عبيد الله الزّهريّ : قال المرّوذيّ : قلت وأحمد بين الهنبادين : يا أستاذ ، قال الله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٢).

قال : يا مرّوذيّ ، أخرج انظر.

فخرجت إلى رحبة دار الخليفة ، فرأيت خلقا لا يحصيهم إلّا الله تعالى ، والصّحف في أيديهم ، والأقلام والمحابر. فقال لهم المرّوذيّ : أيّ شيء تعملون؟

قالوا : ننتظر ما يقول أحمد فنكتبه.

فدخل إلى أحمد فأخبره ، فقال : يا مرّوذيّ أضلّ هؤلاء كلّهم؟

قلت : هذه حكاية منقطعة لا تصحّ (٣).

قال ابن أبي حاتم (٤) : ثنا عبد الله بن محمد بن الفضل الأسديّ قال : لمّا حمل أحمد ليضرب جاءوا إلى بشر بن الحارث فقالوا : قد حمل أحمد بن حنبل وحملت السّياط ، وقد وجب عليك أن تتكلّم.

فقال : تريدون منّي مقام الأنبياء؟ ليس ذا عندي. حفظ الله أحمد من بين يديه ومن خلفه.

وقال الحسن بن محمد بن عثمان الفسويّ : حدّثني داود بن عرفة : ثنا ميمون بن الأصبغ قال : كنت ببغداد ، فسمعت ضجّة ، فقلت : ما هذا؟ قالوا : أحمد يمتحن.

__________________

(١) الحلية ٩ / ٢٠٣.

(٢) سورة النساء ، الآية ٢٩.

(٣) ذكرها ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد ٣٢٩ ، ٣٣٠.

(٤) في تقدمة المعرفة ٣١٠ ، وحلية الأولياء ٩ / ١٧٠.

١١٠

فأخذت مالا له خطر ، فذهبت به إلى من يدخلني إلى المجلس ، فأدخلوني ، وإذا بالسّيوف قد جرّدت ، وبالرماح قد ركّزت ، وبالتّراس قد صفّفت ، وبالسّياط قد طرحت (١) ، فألبسوني قباء أسود ومنطقة وسيفا ، ووقّفوني حيث أسمع الكلام. فأتى أمير المؤمنين ، فجلس على كرسيّ ، وأتى بأحمد بن حنبل ، فقال له : وقرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأضربنّك بالسّياط ، أو تقول كما أقول.

ثمّ التفت إلى جلّاد فقال : خذه إليك. فأخذه ، فلمّا ضرب سوطا قال : بسم الله. فلمّا ضرب الثّاني قال : لا حول ولا قوّة إلّا بالله. فلمّا ضرب الثّالث قال : القرآن كلام الله غير مخلوق. فلمّا ضرب الرابع قال : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) (٢).

فضربه تسعة وعشرين سوطا. وكانت تكّة أحمد حاشية ثوب ، فانقطعت ، فنزل السّراويل إلى عانته ، فقلت : السّاعة ينهتك.

فرمى بطرفه إلى السّماء ، وحرّك شفتيه ، فما كان بأسرع من أن بقي السّراويل لم ينزل. فدخلت عليه بعد سبعة أيّام ، فقلت : يا أبا عبد الله رأيتك وقد انحلّ سراويلك ، فرفعت رأسك أو أطرافك إلى السّماء ، فما قلت؟ قال : قلت : اللهمّ إنّي أسألك باسمك الّذي ملأت به العرش إن كنت تعلم أنّي على الصّواب ، فلا تهتك لي سترا (٣).

وقال جعفر بن أحمد بن فارس الأصبهانيّ : ثنا أحمد بن أبي عبيد الله قال : قال أحمد بن الفرج : حضرت أحمد بن حنبل لمّا ضرب ، فتقدّم أبو الدّنّ فضربه بضعة عشر سوطا ، فأقبل الدّم من أكتافه ، وكان عليه سراويل ، فانقطع خيطه ، فنزل السّراويل ، فلحظته وقد حرّك شفتيه ، فعاد السّراويل كما كان ، فسألته عن ذلك فقال : قلت : إلهي وسيّدي ، وقفتني هذا الموقف ، فتهتكني

__________________

(١) في : سير أعلام النبلاء ١١ / ٢٥٤ : «وضعت».

(٢) سورة التوبة ، الآية ٥١.

(٣) قال المؤلّف ـ رحمه‌الله ـ : هذه حكاية منكرة ، أخاف أن يكون داود وضعها. (سير أعلام النبلاء ١١ / ٢٥٥).

١١١

على رءوس الخلائق (١)!

هذه حكاية لا تصحّ. ولقد ساق فيها أبو نعيم الحافظ من الخرافات والكذب ما يستحى (٢) من ذكره.

وأضعف منها ما رواه أبو نعيم في «الحلية» (٣) : ثنا الحسين بن محمد ، نا إبراهيم بن محمد بن إبراهيم القاضي : حدّثني أبو عبد الله الجوهريّ : حدّثني يوسف بن يعقوب : سمعت عليّ بن محمد القرشي قال : لما قدّم أحمد ليضرب وجرّد وبقي في سراويله ، فبينا هو يضرب انحلّ سراويله ، فجعل يحرّك شفتيه بشيء ، فرأيت يدين خرجتا من تحته وهو يضرب ، فشدّتا السّراويل. فلمّا فرغوا من الضّرب قلنا له : ما كنت تقول؟ قال : قلت : يا من لا يعلم العرش منه أين هو إلّا هو ، إن كنت على الحق فلا تبد عورتي.

قلت : هذه مكذوبة ذكرتها للمعرفة. ذكرها البيهقيّ ، وما جسر على تضعيفها.

ثمّ روى بعدها حكاية في المحنة ، عن أبي مسعود البجليّ إجازة ، عن ابن جهضم ، وهو كذوب ، عن النّجّاد ، عن ابن أبي العوّام الرّياحيّ ، فيها من الرّكاكة والخرط ما لا يروج إلّا على الجهّال. وفيها أنّ مئزره اضطرب ، فحرّك شفتيه ، فما استتمّ الدّعاء حتّى رأيت كفّا من ذهب قد خرج من تحت مئزره بقدرة الله ، فصاحت العامّة (٤).

وقال محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة : سمعت شاباص التّائب يقول : لقد ضربت أحمد بن حنبل ثمانين سوطا ، لو ضربته فيلا لهدّته.

قال ابن أبي حاتم : نا أبي قال : قال إبراهيم بن الحارث العباديّ : قال أبو محمد الطّفاويّ لأحمد : يا أبا عبد الله ، أخبرني عما صنعوا بك.

__________________

(١) حلية الأولياء ٩ / ٢٠٦.

(٢) في سير أعلام النبلاء ١١ / ٢٥٥ : «ما يستحيا».

(٣) ج ٩ / ١٩٥ ، ١٩٦.

(٤) سير أعلام النبلاء ١١ / ٢٥٦.

١١٢

قال : لمّا ضربت جاء ذاك الطّويل اللّحية ، يعني عجيفا ، فضربني بقائم سيفه فقلت : جاء الفرج ، يضرب عنقي وأستريح. فقال ابن سماعة : يا أمير المؤمنين اضرب عنقه ، ودمه في رقبتي.

قال ابن أبي دؤاد : لا يا أمير المؤمنين ، لا تفعل ، فإنّه إن قتل أو مات في دارك قال النّاس : صبر حتّى قتل ، واتّخذوه إماما ، وثبتوا على ما هم عليه. ولكن أطلقه لساعة ، فإن مات خارجا من منزلك شكّ النّاس بأمره (١).

قال ابن أبي حاتم (٢) : وسمعت أبا زرعة يقول : دعي المعتصم بعمّ أحمد بن حنبل ثم قال للنّاس : تعرفونه؟

قالوا : نعم ، وهو أحمد بن حنبل.

قال : فانظروا إليه أليس هو صحيح البدن؟

قالوا : نعم.

ولو لا أنّه فعل ذلك لكنت أخاف أن يقع شيء (٣) لا يقام له.

قال : فلمّا قال : قد سلّمته إليكم صحيح البدن. هدأ النّاس وسكنوا.

قال صالح : صار أبي إلى المنزل ووجّه إليه من السّحر من يبصر الضّرب والجراحات ويعالج منها. فنظر إليه وقال : أنا والله لقد رأيت من ضرب ألف سوط ، ما رأيت ضربا أشدّ من هذا. لقد جرّ عليه من خلفه ومن قدّامه.

ثمّ أدخل ميلا في بعض تلك الجراحات وقال : لم ينضب. فجعل يأتيه ويعالجه ، وكان قد أصاب وجهه غير ضربة ، ثم مكث يعالجه ما شاء الله. ثم قال : إنّ هاهنا شيئا أريد أن أقطعه. فجاء بحديدة ، فجعل يعلق اللّحم بها ويقطعه بسكّين ، وهو صابر بحمد الله ، فبرأ. ولم يزل يتوجّع من مواضع منه. وكان أثر الضرب بيّنا في ظهره إلى أن توفّي.

وسمعت أبي يقول : والله لقد أعطيت المجهود من نفسي ، ووددت أنّي أنجو من هذا الأمر كفافا لا عليّ ولا لي.

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١١ / ٢٥٩.

(٢) في تقدمة المعرفة ٣٠٩.

(٣) في التقدمة «يقع شر».

١١٣

ودخلت على أبي يوما فقلت له : بلغني أنّ رجلا جاء إلى فضل الأنماطيّ فقال له : اجعلني في حلّ إذ لم أقم بنصرتك.

فقال فضل : لا جعلت أحدا في حلّ.

فتبسّم أبي وسكت. فلمّا كان بعد أيّام قال : مررت بهذه الآية : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) (١) فنظرت في تفسيرها ، فإذا هو ما حدّثني أبو النّضر : ثنا ابن فضالة المبارك : حدّثني من سمع الحسن يقول : إذا جثت الأمم بين يدي ربّ العالمين نودوا : ليقم من أجره على الله. فلا يقوم إلّا من عفا في الدّنيا.

قال أبي : فجعلت الميت في حلّ من ضربه إيّاي.

ثمّ جعل يقول : وما على رجل ألّا يعذّب الله بسببه أحدا (٢).

وقال حنبل بن إسحاق : لمّا أمر المعتصم بتخلية أبي عبد الله خلع عليه مبطّنة وقميصا وطيلسانا وخفّا وقلنسوة ، فبينا نحن على باب الدّار والنّاس في الميدان والدّروب وغيرها ، وأغلقت الأسواق ، إذ خرج أبو عبد الله على دابّة من دار أبي إسحاق المعتصم ، وعليه تلك الثّياب ، وابن أبي دؤاد عن يمينه ، وإسحاق بن إبراهيم ، يعني نائب بغداد ، عن يساره ، فلمّا صار في دهليز المعتصم قبل أن يخرج قال لهم ابن أبي دؤاد : اكشفوا رأسه. فكشفوه ، يعني الطّيلسان فقط ، وذهبوا يأخذون به ناحية الميدان نحو طريق الحبس. فقال لهم إسحاق : خذوا به هاهنا ، يريد دجلة. فذهب به إلى الزّورق ، وحمل إلى دار إسحاق ، وأقام عنده إلى أن صلّيت الظّهر. وبعث إلى أبي وإلى جيراننا ومشايخ المحالّ ، فجمعوا وأدخلوا عليه ، فقال لهم : هذا أحمد بن حنبل إن كان فيكم من يعرفه ، وإلّا فليعرفه.

وقال ابن سماعة حين دخل للجماعة : هذا أحمد بن حنبل ، فإنّ أمير المؤمنين ناظره في أمره ، وقد خلّى سبيله ، وها هو ذا.

فأخرج على دابّة لإسحاق بن إبراهيم عند غروب الشّمس ، فصار إلى

__________________

(١) سورة الشورى ، الآية ٤٠.

(٢) سير أعلام النبلاء ١١ / ٢٥٧.

١١٤

منزله ومعه السّلطان والنّاس ، وهو منحني. فلمّا ذهب لينزل احتضنته ولم أعلم ، فوقعت يدي على موضع الضّرب فصاح ، فنحّيت يدي ، فنزل متوكّئا عليّ ، وأغلق الباب ودخلنا معه ، ورمى بنفسه على وجهه لا يقدر يتحرّك إلّا بجهد ، وخلع ما كان عليه ، فأمر به فبيع ، وأخذ ثمنه فتصدّق به. وكان المعتصم أمر إسحاق بن إبراهيم أن لا يقطع عنه خبره ، وذلك أنّه ترك فيما حكي لنا عند الإياس منه. وبلغنا أنّ المعتصم ندم وأسقط في يده حتّى صحّ. فكان صاحب خبر إسحاق يأتينا كلّ يوم يتعرّف خبره حتّى صحّ ، وبقيت إبهاماه متخلعتين تضربان عليه في البرد حتّى يسخّن له الماء.

ولمّا أردنا علاجه خفنا أن يدسّ ابن أبي دؤاد سمّا إلى المعالج ، فعملنا الدّواء والمراهم في منزلنا. وسمعته يقول : كلّ من ذكرني في حلّ إلّا مبتدع. وقد جعلت أبا إسحاق ، يعني المعتصم ، في حلّ. ورأيت الله تعالى يقول : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) (١) وأمر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر بالعفو في قصّة مسطح.

قال أبو عبد الله : العفو أفضل ، وما ينفعك أن يعذّب أخوك المسلم في سبيلك.

فصل في محنته من الواثق

قال حنبل : ولم يزل أبو عبد الله بعد أن بريء من مرضه يحضر الجمعة والجماعة ويفتي ويحدّث حتّى مات المعتصم ، وولي ابنه الواثق ، فأظهر ما أظهر من المحنة والميل إلى ابن أبي دؤاد وأصحابه. فلمّا اشتدّ الأمر على أهل بغداد ، وأظهرت القضاة المحنة ، وفرّق بين فضل الأنماطيّ وامرأته ، وبين أبي صالح وامرأته ، كان أبو عبد الله يشهد الجمعة ويعيد الصّلاة إذا رجع ويقول : الجمعة تؤتي لفضلها ، والصّلاة تعاد خلف من قال بهذه المقالة.

وجاء نفر إلى أبي عبد الله وقالوا : هذا الأمر قد فشا وتفاقم ، ونحن نخافه على أكثر من هذا. وذكروا أنّ ابن أبي دؤاد أراد أن يأمر المعلّمين بتعليم

__________________

(١) سورة النور ، الآية ٢٢.

١١٥

الصّبيان في الكتّاب مع القرآن القرآن كذا وكذا. فنحن لا نرضى بإمارته.

فمنعهم من ذلك وناظرهم. وحكى حنبل قصده في مناظرتهم وأمرهم بالصّبر.

فبينا نحن في أيّام الواثق إذ جاء يعقوب ليلا برسالة إسحاق بن إبراهيم إلى أبي عبد الله : يقول لك الأمير إنّ أمير المؤمنين قد ذكرك ، فلا يجتمعنّ إليك أحد ، ولا تساكنّي بأرض ولا مدينة أنا فيها. فاذهب حيث شئت من أرض الله.

فاختفى أبو عبد الله بقيّة حياة الواثق. وكانت تلك الفتنة ، وقتل أحمد بن نصر ، فلم يزل أبو عبد الله مختفيا في غير منزله في القرب. ثمّ عاد إلى منزله بعد أشهر أو سنة لمّا طغى خبره. ولم يزل في البيت مختفيا لا يخرج إلى الصّلاة ولا غيرها حتّى هلك الواثق.

وعن إبراهيم بن هاني قال : اختفى أحمد بن حنبل عندي ثلاثة أيّام ثم قال : اطلب لي موضعا.

قلت : لا آمن عليك.

قال : افعل. فإذا فعلت أفدتك.

فطلبت له موضعا ، فلمّا خرج قال لي : اختفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الغار ثلاثة أيّام ، ثم تحوّل.

قلت : أنا أتعجّب من الحافظ أبي القاسم كيف لم يسق المحنة ولا شيئا منها في «تاريخ دمشق» مع فرط استقصائه ، ومع صحّة أسانيدها ، ولعلّ له نيّة في تركها.

فصل في حال أبي عبد الله أيّام المتوكّل

قال حنبل : ولي جعفر المتوكّل فأظهر الله السّنّة وفرّج عن النّاس ، وكان أبو عبد الله يحدّثنا ويحدّث أصحابه في أيّام المتوكّل ، وسمعته يقول : ما كان النّاس إلى الحديث والعلم أحوج منهم في زماننا.

ثمّ إنّ المتوكّل ذكره وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم في إخراجه إليه. فجاء رسول إسحاق إلى أبي عبد الله يأمره بالحضور ، فمضى أبو عبد الله ثم رجع فسأله

١١٦

أبي عمّا دعي له فقال : قرأ عليّ كتاب جعفر يأمرني بالخروج إلى العساكر.

قال : وقال لي إسحاق بن إبراهيم : ما تقول في القرآن؟

فقلت : إنّ أمير المؤمنين قد نهى عن هذا.

فقال : لا تعلم أحدا أنّي سألتك.

فقلت له : مسألة مسترشد أو مسألة متعنّت؟

قال : بل مسألة مسترشد.

فقلت له : القرآن كلام الله ليس بمخلوق ، وقد نهى أمير المؤمنين عن هذا.

وخرج إسحاق إلى العساكر ، وقدم ابنه خليفة له ببغداد ، ولم يكن عند أبي عبد الله ما يتجمّل به وينفقه ، وكانت عندي مائة درهم ، فأتيت بها أبي ، فذهب بها إليه ، فأخذها وأصلح بها ما احتاج إليه ، واكترى منها ، وخرج ولم يلق محمد بن إسحاق بن إبراهيم ، ولا سلّم عليه. فكتب بذلك محمد إلى أبيه ، فحقدها إسحاق عليه ، فقال للمتوكّل : يا أمير المؤمنين إنّ أحمد بن حنبل خرج من بغداد ولم يأت محمدا مولاك.

فقال المتوكّل : يردّ ولو وطئ بساطي.

وكان أبو عبد الله قد بلغ بصرى ، فوجّه إليه رسولا يأمره بالرجوع ، فرجع وامتنع من الحديث إلّا لولده ولنا. وربّما قرأ علينا في منزلنا.

ثمّ إنّ رافعا رفع إلى المتوكّل أن أحمد بن حنبل ربّص علويّا في منزله ، وأنّه يريد أن يخرجه ويبايع عليه ، ولم يكن عندنا علم ، فبينا نحن ذات ليلة نيام في الصّيف سمعنا الجلبة ، ورأينا النّيران في دار أبي عبد الله ، فأسرعنا ، وإذا أبو عبد الله قاعد في إزار ، ومظفّر بن الكلبيّ صاحب الخبر وجماعة معهم. فقرأ صاحب الخبر كتاب المتوكل : ورد على أمير المؤمنين أنّ عندكم علويا ربّصته لتبايع عليه وتظهره. في كلام طويل.

ثمّ قال له مظفّر : ما تقول؟

قال : ما أعرف من هذا شيئا ، وإنّي لأرى له السّمع والطّاعة في عسري

١١٧

ومنشطي ومكرهي ، وآثره عليّ. وإنّي لأدعو الله له بالتّسديد والتّوفيق في اللّيل والنّهار. في كلام كثير غير هذا.

وقال ابن الكلبيّ : قد أمرني أمير المؤمنين أن أحلّفك.

قال : فأحلفه بالطّلاق ثلاثا أنّ ما عنده طلبة أمير المؤمنين.

قال : وفتّشوا منزل أبي عبد الله والسّرب والغرف والسّطوح ، وفتّشوا تابوت الكتب ، وفتّشوا النّساء والمنازل ، فلم يروا شيئا ولم يحسّوا بشيء ، وردّ الله الّذين كفروا بغيظهم.

فكتب بذلك إلى المتوكّل ، فوقع منه موقعا حسنا وعلم أنّ أبا عبد الله مكذوب عليه.

وكان الّذي دسّ عليه رجل من أهل البدع ، ولم يمت حتّى بيّن الله أمره للمسلمين ، وهو ابن الثّلجيّ. فلمّا كان بعد أيّام بينا نحن جلوس بباب الدّار إذا يعقوب أحد حجّاب المتوكّل قد جاء ، فاستأذن على أبي عبد الله ، فدخل ودخل أبي وأنا ، ومع بعض غلمانه بدرة ، على بغل ، ومعه كتاب المتوكّل ، فقرأه على أبي عبد الله : إنّه قد صحّ عند أمير المؤمنين براءة ساحتك ، وقد وجّه إليك بهذا المال تستعين به. فأبى أن يقبله وقال : ما لي إليه حاجة.

فقال : يا أبا عبد الله ، اقبل من أمير المؤمنين ما أمرك به فإنّ هذا خير لك عنده ، فاقبل ولا تردّه. فإنّك إن رددته خفت أن يظنّ بك ظنّ سوء.

فحينئذ قبلها.

فلمّا خرج قال : يا أبا عليّ.

قلت : لبّيك.

قال : ارفع هذه الإجّانة وضعها ، يعني البدرة ، تحتها.

فوضعتها وخرجنا. فلما كان اللّيل إذا أمّ ولد أبي عبد الله تدقّ علينا الحائط ، فقلت لها : ما لك؟

قالت : مولاي يدعو عمّه.

فأعلمت أبي ، وخرجنا فدخلنا على أبي عبد الله ، وذلك في جوف اللّيل.

١١٨

فقال : يا عمّ ، ما أخذني النّوم هذه اللّيلة.

فقال له أبي : ولم؟

قال : لهذا المال.

وجعل يتوجّع لأخذه ، وجعل أبي يسكّنه ويسهّل عليه ، وقال : حتّى تصبح وترى فيه رأيك ، فإنّ هذا ليل والنّاس في منازلهم.

فأمسك ، وخرجنا. فلمّا كان في السّحر وجّه إلى عبدوس بن مالك ، والحسن بن البزّار ، فحضرا ، وحضر جماعة منهم : هارون الحمّال ، وأحمد بن منيع ، وابن الدّورقيّ ، وأنا ، وأبي ، وصالح ، وعبد الله فجعلنا نكتب من يذكرونه من أهل السّنّة والصّلاح ببغداد والكوفة ، فوجّه منها إلى أبي سعيد الأشجّ ، وإلى أبي كريب ، وإلى من ذكر أنّه من أهل العلم والسّنّة ممّن يعلمون أنّه محتاج.

ففرّقها كلّها ما بين الخمسين إلى المائة والمائتين ، فما بقي في الكيس درهم.

ثمّ تصدّق بالكيس على مسكين.

فلما كان بعد ذلك مات إسحاق بن إبراهيم وابنه محمد ، وولي بغداد عبد الله بن إسحاق ، فجاء رسوله إلى أبي عبد الله ، فذهب إليه ، فقرأ عليه كتاب المتوكّل فقال له : يأمرك بالخروج.

فقال : أنا شيخ ضعيف عليل.

فكتب عبد الله بما ردّ عليه ، فورد جواب الكتاب بأنّ أمير المؤمنين يأمره بالخروج. فوجّه عبد الله جنوده ، فباتوا على بابنا أيّاما حتّى تهيّأ أبو عبد الله للخروج ، فخرج وخرج صالح ، وعبد الله ، وأبو رميلة.

قال صالح : كان حمل أبي إلى المتوكّل سنة سبع وثلاثين ومائتين ، ثم عاش إلى سنة إحدى وأربعين ، فكان قلّ يوم يمضي إلّا ورسول المتوكّل يأتيه.

قال حنبل في حديثه : وقال أبي ارجع. فرجعت ، فأخبرني أبي قال : لما دخلنا إلى العساكر إذا نحن بموكب عظيم مقبل ، فلمّا حاذى بنا قالوا : هذا وصيف. وإذا فارس قد أقبل ، فقال لأحمد : الأمير وصيف يقرئك السّلام ، ويقول لك : إنّ الله قد أمكنك من عدوّك ، يعني ابن أبي دؤاد ، وأمير المؤمنين

١١٩

يقبل منك ، فلا تدع شيئا إلّا تكلّمت به.

فما ردّ عليه أبو عبد الله شيئا. وجعلت أنا أدعو لأمير المؤمنين ، ودعوت لوصيف ، ومضينا ، فأنزلنا في دار التّيّاح ، ولم يعلم أبو عبد الله ، فسأل بعد ذلك : لمن هذه الدار؟

قالوا : هذه دار التّيّاح.

فقال : حوّلوني ، اكتروا لي.

فلم نزل حتّى اكترينا له دارا. وكانت تأتينا في كل يوم مائدة فيها ألوان يأمر بها المتوكّل ، والفاكهة والثّلج ، وغير ذلك. فما نظر إليها أبو عبد الله ، ولا ذاق منها شيئا. وكانت نفقة المائدة كلّ يوم مائة وعشرين درهما.

وكان يحيى بن خاقان ، وابنه عبيد الله ، وعليّ بن الجهم يأتون أبا عبد الله ويختلفون إليه برسالة المتوكّل.

ودامت العلّة بأبي عبد الله وضعف ضعفا شديدا. وكان يواصل ، فمكث ثمانية أيّام ولا يأكل ولا يشرب. فلمّا كان في اليوم الثّامن دخلت عليه ، وقد كاد أن يطفأ ، فقلت : يا أبا عبد الله ، ابن الزّبير كان يواصل سبعة أيّام ، وهذا لك اليوم ثمانية أيام.

قال : إنّي مطيق.

قلت : بحقّي عليك.

قال : فإنّي أفعل.

فأتيته بسويق فشرب ، ووجّه إليه المتوكّل بمال عظيم فردّه ، فقال له عبيد الله بن يحيى : فإنّ أمير المؤمنين يأمرك أن تدفعها إلى ولدك وأهلك.

قال : هم مستعفون فردّها عليه.

فأخذها عبيد الله فقسّمها على ولده وأهله.

ثمّ أجرى المتوكّل على أهله وولده أربعة آلاف في كلّ شهر ، فبعث إليه أبو عبد الله : إنّهم في كفاية ، وليست بهم حاجة.

فبعث إليه المتوكّل : إنّما هذا لولدك ، ما لك ولهذا؟

١٢٠