تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام - ج ١٨

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

وقال ابن أبي حاتم : ذكر عبد الله بن أبي عمر البكريّ قال : سمعت عبد الملك الميمونيّ يقول : ما أعلم أنّي رأيت أحدا أنظف ثوبا ولا أشدّ تعاهد لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه ، ولا أنقى ثوبا وشدّة بياض من أحمد بن حنبل.

وقال الخلّال : أخبرني محمد بن الجنيد أنّ المرّوذيّ حدّثهم قال : كان أبو عبد الله لا يدخل الحمّام. وكان إذا احتاج إلى النّورة تنوّر في البيت.

وأصلحت له غير مرّة النّورة ، واشتريت له جلدا ليده يدخل يده فيه ويتنوّر.

وقال حنبل : رأيت أبا عبد الله إذا أراد القيام قال لجلسائه : إذا شئتم.

وقال المرّوذيّ : رأيت أبا عبد الله قد ألقى لختّان درهمين في الطّست.

وقال موسى بن هارون : سئل أحمد بن حنبل فقيل له : أين نطلب البدلاء؟

فسكت حتّى ظننّا أنّه لا يجيب ، ثمّ قال : إن لم يكن من أصحاب الحديث فلا أدري.

وقال المرّوذيّ : كان الإمام أحمد إذا ذكر الموت خنقته العبرة. وكان يقول : الخوف يمنعني أكل الطّعام والشّراب.

وقال : إذا ذكرت الموت هان عليّ كلّ شيء من أمر الدّنيا. وإنّما هو طعام دون طعام ، ولباس دون لباس ، وإنّها أيام قلائل. ما أعدل بالفقر شيئا.

وقال : لو وجدت السّبيل لخرجت حتّى لا يكون لي ذكر.

__________________

= العبد أن يخفّفوا من خراجه ، وفي الطب : باب الحجامة من الداء. ومسلم في المساقاة (١٥٧٧) باب حلّ أجرة الحجامة ، ومالك في الموطّأ (٢ / ٩٧٤) في الاستئذان ، باب ما جاء في الحجامة وأجرة الحجام ، وكلهم من طرق عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، قال : حجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو طيبة ، فأمر له بصاع من تمر ، وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه.

ومثله عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم احتجم وأعطى الحجّام أجره ، واستعط. أخرجه البخاري ٤ / ٣٣٧ في الإجازة باب خراج الحجام ، وفي البيوع ، باب ذكر الحجام.

ولمسلم قال : حجم الغبيّ عبد لبني بياضة فأعطاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجره وكلّم سيّده ، فخفّف عنه ضريبته ، ولو كان سحتا لم يعطه النبي. (١٢٠٢) في المساقاة باب حلّ أجرة الحجامة ، ورواه أبو داود في البيوع (٣٤٢٣) باب في كسب الحجام ، وابن جميع الصيداوي في معجم الشيوخ (٢٥١) من طريق ابن سيرين ، عن ابن عباس قال : احتجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآجره ، ولو كان حراما لم يفعل.

٨١

وقال : أريد أن أكون في بعض تلك الشّعاب بمكّة ، حتّى لا أعرف. قد بليت بالشّهرة. إنّي لأتمنّى الموت صباحا ومساء.

وقال المرّوذيّ : ذكر لأحمد أنّ رجلا يريد لقاءه ، فقال : أليس قد كره بعضهم اللّقاء. يتزيّن لي وأتزيّن له.

وقال : لقد استرحت. ما جاءني الفرح إلّا منذ حلفت أن لا أحدّث ، وليتنا نترك.

الطّريق ما كان عليه بشر بن الحارث.

وقال المرّوذيّ : قلت لأبي عبد الله : إنّ فلانا قال : لم يزهد أبو عبد الله في الدّراهم وحدها ، قد زهد في النّاس.

فقال : ومن أنا حتّى أزهد في النّاس؟ النّاس يريدون أن يزهدوا فيّ.

وسمعت أبا عبد الله يكره للرجل أن ينام بعد العصر ، يخاف على عقله.

وسمعته يقول : لا يفلح من تعاطى الكلام ، ولا يخلو من أن يتجهّم.

وسئل عن القراءة ، بالألحان فقال : هذه بدعة لا تسمع.

وكان قد قارب الثّمانين ، رحمه‌الله.

فصل

في قوله في أصول الدّين

قال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل يقول : الإيمان قول وعمل ، يزيد وينقص (١).

البرّ كلّه من الإيمان ، والمعاصي تنقص من الإيمان.

وقال إسحاق بن إبراهيم البغويّ : سمعت أحمد بن حنبل ، وسئل عمّن يقول : القرآن مخلوق ، فقال : كافر.

وقال سلمة بن شبيب : سمعت أحمد يقول : من قال القرآن مخلوق فهو كافر.

__________________

(١) وهو قول الإمام الأوزاعي أيضا.

٨٢

وقال أبو إسماعيل التّرمذيّ : سمعت أحمد بن حنبل يقول : من قال القرآن مخلوق فهو كافر.

وقال إسماعيل بن الحسن السّرّاج : سألت أحمد عمّن يقول : القرآن مخلوق.

فقال : كافر.

وعمّن يقول : لفظي بالقرآن مخلوق.

فقال : جهميّ.

وقال صالح بن أحمد : تناهى إلى أبي أنّ أبا طالب يحكي أنّه يقول :

لفظي بالقرآن غير مخلوق. فأخبرت أبي بذلك ، فقال : من أخبرك؟ قلت :

فلان. فقال : ابعث إلى أبي طالب. فوجّهت إليه ، فجاء وجاء فوزان ، فقال له أبي : أنا قلت لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ وغضب وجعل يرعد ، فقال : قرأت عليك (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) فقلت لي : ليس هذا بمخلوق.

فقال : فلم حكيت عنّي أنّي قلت لك : لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ وبلغني أنّك وضعت ذلك في كتاب ، وكتبت به إلى قوم. فامحه ، واكتب إلى القوم أنّي لم أقله لك. فجعل فوزان يعتذر إليه ، وانصرف من عنده وهو مرعوب ، فعاد أبو طالب ، فذكر أنّه قد حكّ ذلك من كتابه ، وأنّه كتب إلى القوم يخبرهم أنّه وهم على أبي.

قلت : الّذي استقرّ عليه قول أبي عبد الله : أنّ من قال : لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهميّ ، ومن قال : لفظي بالقرآن غير مخلوق ، فهو مبتدع.

وقال أحمد بن زنجويه : سمعت أحمد بن حنبل يقول : اللّفظيّة شرّ من الجهميّة.

وقال صالح بن أحمد : سمعت أبي يقول : افترقت الجهميّة على ثلاث فرق :

فرقة قالوا : القرآن مخلوق.

__________________

(١) أول سورة الإخلاص.

٨٣

وفرقة قالوا : القرآن كلام الله تعالى ، وسكتوا.

وفرقة قالوا : لفظنا بالقرآن مخلوق.

وقال أبي : لا يصلّى خلف واقفيّ ، ولا خلف لفظيّ.

وقال المرّوذيّ : أخبرت أبا عبد الله أنّ أبا شعيب السّوسيّ الّذي كان بالرّقّة فرّق بين ابنته وزوجها لمّا وقف بالقرآن. فقال : أحسن ، عافاه الله. وجعل يدعو له.

وقد كان أبو شعيب شاور النّفيليّ ، فأمره أن يفرّق بينهما.

قال المرّوذيّ : ولمّا أظهر يعقوب بن شيبة الوقف حذّر أبو عبد الله عنه ، وأمر بهجرانه وهجران من كلّمه.

قلت : ولأبي عبد الله في مسألة اللّفظ نصوص متعدّدة.

وأوّل من أظهر اللّفظ الحسين بن عليّ الكرابيسيّ (١) ، وذلك في سنة أربع وثلاثين ومائتين.

وكان الكرابيسيّ من كبار الفقهاء.

وقال المرّوذيّ في كتاب «القصص» : عزم حسن بن البزّاز ، وأبو نصر بن عبد المجيد ، وغيرهما على أن يجيئوا بكتاب «المدلّسين» الّذي وضعه الكرابيسيّ يطعن فيه على الأعمش ، وسليمان التّيميّ. فمضيت إليه في سنة أربع وثلاثين فقلت : إنّ كتابك يريد قوم أن يعرضوه على أبي عبد الله ، فأظهر أنّك قد ندمت عليه.

فقال : إنّ أبا عبد الله رجل صالح ، مثله يوفّق لإصابة الحقّ. قد رضيت أن يعرض عليه. لقد سألني أبو ثور أن أمحوه ، فأبيت.

فجيء بالكتاب إلى أبي عبد الله ، وهو لا يعلم لمن هو ، فعلّموا على مستبشعات من الكتاب ، وموضع فيه وضع على الأعمش ، وفيه : إن زعمتم أنّ الحسن بن صالح كان يرى السّيف فهذا ابن الزّبير قد خرج.

__________________

(١) انظر ترجمة الكرابيسي في هذا الجزء ، برقم (١٥٥).

٨٤

فقال أبو عبد الله : هذا أراد نصرة الحسن بن صالح ، فوضع على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد جمع للرّوافض أحاديث في هذا الكتاب.

فقال أبو نصر : إنّ فتياننا يختلفون إلى صاحب هذا الكتاب.

فقال : حذروا عنه.

ثمّ انكشف أمره ، فبلغ الكرابيسيّ ، فبلغني أنّه قال : سمعت حسينا الصّايغ يقول : قال الكرابيسيّ : لأقولنّ مقالة حتّى يقول أحمد بن حنبل بخلافها فيكفر ، فقال : لفظي بالقرآن مخلوق.

فقلت لأبي عبد الله : إنّ الكرابيسيّ قال : لفظي بالقرآن مخلوق. وقال أيضا : أقول : إنّ القرآن كلام الله غير مخلوق من كلّ الجهات ، إلّا أنّ لفظي بالقرآن مخلوق. ومن لم يقل إنّ لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر.

فقال أبو عبد الله : بل هو الكافر ، قاتله الله ، وأيّ شيء قالت الجهميّة إلّا هذا؟ قالوا كلام الله ، ثمّ قالوا : مخلوق. وما ينفعه وقد نقض كلامه إلّا خير كلامه الأوّل حين قال : لفظي بالقرآن مخلوق.

ثمّ قال أحمد : ما كان الله ليدعه وهو يقصد إلى التّابعين مثل سليمان الأعمش ، وغيره ، يتكلّم فيهم. مات بشر المريسيّ ، وخلفه حسين الكرابيسيّ.

ثم قال : أيش خبر أبي ثور؟ وافقه على هذا؟

قلت : قد هجره.

قال : قد أحسن.

قلت : إنّي سألت أبا ثور عمّن قال : لفظي بالقرآن مخلوق ، فقال : مبتدع.

فغضب أبو عبد الله وقال : أيش مبتدع؟! هذا كلام جهم بعينه. ليس يفلح أصحاب الكلام.

وقال عبد الله بن حنبل : سئل أبي وأنا أسمع عن اللّفظيّة والواقفة فقال : من كان منهم يحسن الكلام فهو جهميّ.

وقال الحكم بن معبد : حدّثني أحمد أبو عبد الله الدّورقيّ قال : قلت لأحمد بن حنبل : ما تقول في هؤلاء الّذين يقولون : لفظي بالقرآن مخلوق؟.

٨٥

فرأيته استوى واجتمع وقال : هذا شرّ من قول الجهميّة. من زعم هذا فقد زعم أنّ جبريل تكلّم بمخلوق ، وجاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمخلوق.

وقال ابن أبي حاتم : ثنا عبد الله بن محمد بن الفضل الأسديّ : سمعت أبا طالب أحمد بن حميد قال : قلت لأحمد بن حنبل : قد جاءت جهميّة رابعة.

فقال : وما هي؟

قلت : قال إنسان : من زعم أنّ في صدره القرآن ، فقد زعم أنّ في صدره من الإلهيّة شيء.

فقال : من قال هذا فقد قال مثل قول النّصارى في عيسى أنّ كلمة الله فيه. ما سمعت بمثل هذا قطّ.

قلت : أهذه الجهميّة.

قال : أكبر من الجهميّة.

ثم قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينزع القرآن من صدوركم».

قلت : الملفوظ كلام الله ، وهو غير مخلوق ، والتّلفّظ مخلوق لأنّ التّلفّظ من كسب القارئ ، وهو الحركة ، والصّوت ، وإخراج الحروف ، فإنّ ذلك ممّا أحدثه القارئ ، ولم يحدث حروف القرآن ولا معانيه ، وإنّما أحدث نطقه به. فاللّفظ قدر مشترك بين هذا وهذا ، ولذلك لم يجوّز الإمام أحمد : لفظي بالقرآن مخلوق ولا غير مخلوق ، إذ كلّ واحد من الإطلاقين موهم. والله أعلم.

وقال أبو بكر الخلّال : أخبرني أحمد بن محمد بن مطر ، وزكريّا بن أبي يحيى ، أنّ أبا طالب حدّثهم أنّه قال لأبي عبد الله : جاءني كتاب من طرسوس أنّ سريّا السّقطيّ قال : لمّا خلق الله الحروف سجدت إلّا الألف فإنّه قال : لا أسجد حتّى أومر.

فقال : هذا كفر.

فرحم الله الإمام أحمد ما عنده في الدّين محاباة.

قال الخلّال : أنبأ محمد بن هارون أنّ إسحاق بن إبراهيم حدّثهم قال : حضرت رجلا سأل أبا عبد الله فقال : يا أبا عبد الله إجماع المسلمين على

٨٦

الإيمان بالقدر خيره وشرّه؟

قال أبو عبد الله : نعم.

قال : ولا نكفّر أحدا بذنب؟

فقال أبو عبد الله : اسكت ، من ترك الصّلاة فقد كفر ، ومن قال : القرآن مخلوق فهو كافر.

وقال الخلّال : أخبرني محمد بن سليمان الجوهريّ ، ثنا عبدوس بن مالك العطّار ، سمعت أحمد بن حنبل يقول : أصول السّنّة عندنا التّمسّك بما كان عليه الصّحابة ، وترك البدع ، وترك الخصومات ، والجلوس مع أصحاب الأهواء ، وترك المراء والجدل. وليس في السّنّة قياس ، ولا يضرب لها الأمثال ، ولا تدرك بالعقول ، والقرآن كلام الله غير مخلوق ، وإنّه من الله ليس ببائن منه. وإيّاك ومناظرة من أحدث فيه ، ومن قال باللّفظ وغيره ، ومن وقف فيه فقال : لا أدري ، مخلوق أو ليس مخلوق ، وإنّما هو كلام الله ، فهو صاحب بدعة. والإيمان بالرؤية يوم القيامة. وإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربّه ، فإنّه مأثور عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رواه قتادة والحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس. ورواه عليّ بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عبّاس. والحديث عندنا على ظاهره على ما جاء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والكلام فيه بدعة. ولكن نؤمن على ما جاء على ظاهره. وإنّ الله يكلّم العباد يوم القيامة ، ليس بينهم وبينه ترجمان.

قال حنبل بن إسحاق : قلت لأبي عبد الله : ما معنى قوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ) و (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) (١)؟.

قال : علمه علمه.

وسمعته يقول : ربّنا تبارك وتعالى على العرش بلا حدّ ولا صفة.

قلت : معنى قوله بلا صفة أي بلا كيفيّة ولا وصف.

وقال أبو بكر المرّوذيّ : حدّثني محمد بن إبراهيم القيسيّ قال : قلت لأحمد بن حنبل : يحكى عن ابن المبارك أنّه قيل له : كيف نعرف ربّنا؟

__________________

(١) سورة المجادلة ، الآية ٧.

٨٧

قال : في السّماء السّابعة على عرشه.

قال أحمد : هكذا هو عندنا.

وقال صالح بن أحمد بن حنبل : سمعت أبي يقول : من زعم أنّ أسماء الله مخلوقة فقد كفر.

وقال عبد الله بن أحمد في كتاب «الرّدّ على الجهميّة» تأليفه : سألت أبي عن قوم يقولون : لمّا كلّم الله موسى لم يتكلّم بصوت.

فقال أبي : بلى تكلّم ـ جلّ ثناؤه ـ بصوت. هذه الأحاديث ترويها كما جاءت.

وقال أبي : حديث ابن مسعود : إذا تكلّم الله سمع له صوت (١) كمرّ السّلسلة على الصّفوان.

قال : وهذه الجهميّة تنكره ، وهؤلاء كفّار يريدون أن يموّهوا على النّاس.

ثم قال : ثنا المحاربيّ : عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : إذا تكلّم الله بالوحي سمع صوته أهل السّماء فيخرّن سجّدا.

وقال عبد الله : وجدت بخطّ أبي ممّا يحتجّ به على الجهميّة من القرآن : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ) (٢) ، (إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) (٣) ، (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) (٤) ، (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ (٥) رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) (٦) ، (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٧) ، (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (٨) ، (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٩) ،(وَيَبْقى وَجْهُ

__________________

(١) في الأصل : «صوتا».

(٢) سورة يس ، الآية ٨٢.

(٣) سورة آل عمران ، الآية ٤٥.

(٤) سورة النساء ، الآية ١٧١.

(٥) في الأصل : «كلمات» وهو غلط.

(٦) سورة الأنعام ، الآية ١١٥.

(٧) سورة النمل ، الآية ٩.

(٨) سورة الأعراف ، الآية ٥٤.

(٩) سورة القصص ، الآية ٨٨.

٨٨

 رَبِّكَ) (١) ، (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٢) ، (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (٣) ، (يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) (٤) ، (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (٥) ، (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ، غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ، وَلُعِنُوا بِما قالُوا ، بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) (٦).

قلت : وذكر آيات كثيرة في الصّفات ، أنا تركت كتابتها هنا.

وقال يعقوب بن إسحاق المطّوّعيّ : سمعت أحمد بن حنبل ، وسئل عن التّفضيل فقال : على حديث ابن عمر رضي‌الله‌عنهما : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان.

وقال صالح بن أحمد : سئل أبي ، وأنا شاهد ، عمّن يقدّم عليّا على عثمان يبدّع؟

فقال : هذا أهل أن يبدّع. أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدّموا عثمان.

وقال عبد الله بن أحمد : قلت لأبي : من الرافضيّ؟

قال : الّذي يشتم رجلا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو يتعرّض لهم ما أراه على الإسلام.

وقال أبو بكر المرّوذيّ : قيل لأبي عبد الله ونحن بالعسكر ، وقد جاء بعض رسل الخليفة فقال : يا أبا عبد الله ما تقول فيما كان بين عليّ ومعاوية؟

قال : ما أقول فيهم إلّا الحسنى.

وكلام الإمام أحمد كثير طيّب في أصول الدّين ، لا يتّسع هذا الباب لسياقه

__________________

(١) سورة الرحمن ، الآية ٢٧.

(٢) سورة طه ، الآية ٣٨.

(٣) سورة النساء ، الآية ١٦٤.

(٤) سورة طه ، الآيتان ١١ و ١٢.

(٥) سورة الزمر ، الآية ٦٧.

(٦) سورة المائدة ، الآية ٦٤.

٨٩

قد جمعه الخلّال في مصنّف سمّاه «كتاب السّنّة» عن أحمد بن حنبل في ثلاث مجلّدات ، فممّا فيه :

أنبا المرّوذيّ : سمعت أبا عبد الله يقول : من تعاطى الكلام لا يفلح ، من تعاطى الكلام لم يخل من أن يتجهّم.

وسمعت أبا عبد الله يقول : لست أتكلّم إلّا ما كان من كتاب أو سنّة ، أو عن الصّحابة والتّابعين. وأمّا غير ذلك فالكلام فيه غير محمود.

وقال حنبل : سمعت أبا عبد الله يقول : من أحبّ الكلام لم يفلح ، لا يؤول أمرهم إلى خير.

وسمعته يقول : عليكم بالسّنّة والحديث وإيّاكم والخوض والجدال والمراء ، فإنّه لا يفلح من أحبّ الكلام.

وقال لي : لا تجالسهم ، ولا تكلّم أحدا منهم.

ثمّ قال : أدركنا النّاس وما يعرفون هذا ، ويجانبون أهل الكلام.

وسمعته يقول : ما رأيت أحدا طلب الكلام واشتهاه فأفلح لأنه يخرجه إلى أمر عظيم. لقد تكلّموا يومئذ بكلام ، واحتجّوا بشيء ما يقوى قلبي ولا ينطلق لساني أن أحكيه.

قال الخلّال : أخبرني محمد بن أبي هارون ، ثنا أبو الحارث : سمعت أبا عبد الله يقول : قال أيّوب : إذا تمرّق أحدكم لم يعد.

وقال الخلّال : أنا أحمد بن أصرم المزنيّ قال : حضرت أحمد بن حنبل قال له العبّاس الهمدانيّ : إنّي ربّما رددت عليهم.

قال أحمد : لا ينبغي الجدال.

ودخل أحمد المسجد وصلّى ، فلمّا انفتل قال : أنت عبّاس؟

قال : نعم.

قال : اتّق الله ، ولا ينبغي أن تنصب نفسك ، وتشتهر بالكلام ولا بوضع الكتب. لو كان هذا خيرا لتقدّمنا فيه الصّحابة. لم أر شيئا من هذه في الكتب ، وهذه كلّها بدعة.

٩٠

قال : مقبول منك يا أبا عبد الله ، استغفر الله وأتوب إليه ، إنّي لست أطلبهم ، ولا أدقّ أبوابهم ، لكن أسمعهم يتكلّمون بالكلام ، وليس أحد يردّ عليهم فأغتمّ ، ولا أصبر حتّى أردّ عليهم.

قال : إن جاءك مسترشد فأرشده. قالها مرارا.

قال الخلّال : أنا محمد بن هارون ، ومحمد بن جعفر ، أنّ أبا الحارث حدّثهم قال : سألت أبا عبد الله قلت : إنّ هاهنا من يناظر الجهميّة يبيّن خطأهم ، ويدقّق عليهم المسائل ، فما ترى؟

قال : لست أرى الكلام في شيء من هذه الأهواء ، ولا أرى لأحد أن يناظرهم. أليس قال معاوية بن قرّة : الخصومات تحبط الأعمال. والكلام رديء لا يدعو إلى خير. تجنّبوا أهل الجدال والكلام ، وعليك بالسّنن ، وما كان عليه أهل العلم قبلكم ، فإنّهم كانوا يكرهون الكلام والخوض مع أهل البدع. وإنّما السّلامة في ترك هذا. لم نؤمر بالجدال والخصومات.

وقال : إذا رأيتم من يحبّ الكلام فاحذروه.

قال ابن أبي داود : ثنا موسى بن عمران الأصبهانيّ : سمعت أحمد بن حنبل يقول : لا تجالس أصحاب الكلام ، وإن ذبّوا عن السّنّة.

وقال الميمونيّ : سمعت أحمد بن حنبل يقول : ما زال الكلام عند أهل الخير مذموما.

قلت : ذمّ الكلام وتعلّمه قد جاء من طرق كثيرة عن الإمام أحمد ، وغيره.

فصل في سيرته

قال الخلّال : قلت لزهير بن صالح بن أحمد : هل رأيت جدّك؟

قال : نعم ، مات وقد دخلت في عشر سنين. كنّا ندخل إليه كلّ يوم جمعة أنا وإخوتي ، وكان بيننا وبينه باب. وكان يكتب لكلّ واحد منّا حبّتين حبّتين من فضّة في رقعة إلى فاميّ (١) يعامله ، فنأخذ منه الحبّتين ، وتأخذ الأخوات.

__________________

(١) الفاميّ : الصائغ.

٩١

وكان ربّما مررت به وهو قاعد في الشّمس ، وظهره مكشوف ، وأثر الضّرب بيّن في ظهره.

وكان لي أخ أصغر منّي اسمه عليّ ، فأراد أبي أن يختنه ، فاتّخذ له طعاما كثيرا ، ودعا قوما ، فلمّا أراد أن يختنه وجّه إليه جدّي فقال له : بلغني ما أحدثته لهذا الأمر ، وقد بلغني أنّك أسرفت ، فابدأ بالفقراء والضّعفاء فأطعمهم.

فلمّا كان من الغد ، وحضر الحجّام ، وحضر أهلنا ، فجاء جدّي حتّى جلس في الموضع الّذي فيه الصّبيّ ، وأخرج صريرة دفعها إلى الحجّام ، وصريرة دفعها إلى الصّبيّ ، وقام فدخل منزله. فنظر الحجّام في الصريرة فإذا درهم واحد.

وكنّا قد رفعنا كثيرا ممّا افترش ، وكان الصّبيّ على مصطبة مرتفعة على شيء من الثّياب الملوّنة ، فلم ينكر ذلك.

وقدم علينا من خراسان ابن خالة جدّي ، فنزل على أبي ، وكان يكنّى بأبي أحمد ، فدخلت معه إلى جدّي ، فجاءت الجارية بطبق خلاف ، وعليه خبز وبقل وخلّ وملح. ثمّ جاءت بغضارة فوضعتها بين أيدينا ، فيها مصلّية ، فيها لحم وسلق كثير ، فجعلنا نأكل وهو يأكل معنا ، ويسأل أبا أحمد عمّن بقي من أهلهم بخراسان في خلال ما يأكل ، فربّما استعجم الشّيء على أبي أحمد ، فيكلّمه جدّي بالفارسيّة ، ويضع القطعة اللّحم بين يديه وبين يديّ. ثمّ رفع الغضارة بيده ، فوضعها ناحية ، ثمّ أخذ طبقا إلى جنبه ، فوضعه بين أيدينا ، فإذا تمرّ برّيّ ، وجوز مكسّر. وجعل يأكل ، وفي خلال ذلك يناول أبا أحمد.

وقال عبد الملك الميمونيّ : كثيرا ما كنت أسأل أبا عبد الله عن الشّيء فيقول : لبّيك لبّيك.

وعن المروذيّ قال : لم أر الفقير في مجلس أعزّ منه في مجلس أبي عبد الله. كان مائلا إليهم ، مقصرا عن أهل الدّنيا. وكان فيه حلم ، ولم يكن بالعجول. وكان كثير التّواضع ، تعلوه السّكينة والوقار. إذا جلس في مجلس بعد العصر لا يتكلّم حتّى يسأل. وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدّر. يقعد حيث انتهى به المجلس.

٩٢

وقال الطّبرانيّ : ثنا موسى بن هارون : سمعت إسحاق بن راهويه يقول : لمّا خرج أحمد بن حنبل إلى عبد الرّزّاق انقطعت به النّفقة ، فأكرى نفسه من جمّالين إلى أن جاء صنعاء ، وعرض عليه أصحابه المواساة ، فلم يقبل.

قال الفقيه عليّ بن محمد بن عمر الرّازيّ : سمعت أبا عمر غلام ثعلب : سمعت أبا القاسم بن بشّار الأنماطيّ : سمعت المزنيّ : سمعت الشّافعيّ يقول : رأيت ببغداد ثلاث أعجوبات : رأيت فيها نبطيّا يتنحّى (١) عليّ حتّى كأنّه عربيّ. ورأيت أعرابيّا يلحن حتّى كأنه نبطيّ ، ورأيت شابّا وخطه الشّيب ، فإذا قال : حدّثنا. قال النّاس كلّهم : صدق.

قال المزنيّ : فسألته ، فقال : الأول الزّعفرانيّ ، والثّاني أبو ثور الكلبيّ وكان لحّانا ، وأمّا الشّابّ فأحمد بن حنبل.

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : رأيت أبي حرّج على النّمل أن يخرج النّمل من داره. ثمّ رأيت النّمل قد خرجن بعد ذلك نملا سودا ، فلم أرهم بعد ذلك.

رواها أحمد بن محمد اللّبنانيّ ، عنه.

قال أبو الفرج بن الجوزيّ : لمّا وقع الغرق سنة أربع وخمسين وخمسمائة ، غرقت كتبي ، وسلم لي مجلّد ، فيه ورقتان بخطّ الإمام أحمد.

ومن نهي أبي عبد الله عن الكلام ، قال المرّوذيّ : أخبرت قبل موت أبي عبد الله بسنتين أنّ رجلا كتب كتابا إلى أبي عبد الله يشاوره في أن يضع كتابا يشرح فيه الرّدّ على أهل البدع ، فكتب إليه أبو عبد الله.

قال الخلّال : وأخبرني عليّ بن عيسى أنّ حنبلا حدّثهم قال : كتب رجل إلى أبي عبد الله.

قال : وأخبرني محمد بن عليّ الورّاق ثنا صالح بن أحمد قال : كتب رجل إلى أبي يسأله عن مناظرة أهل الكلام والجلوس معهم ، فأملى عليّ أبي جواب

__________________

(١) أي يتحدّث بالنّحو.

٩٣

كتابه : أحسن الله عاقبتك ، الّذي كنّا نسمع عليه من أدركنا أنّهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزّيغ ، وإنّما الأمر في التّسليم والانتهاء إلى ما في كتاب الله ، لا تعد ذلك. ولم يزل النّاس يكرهون كلّ محدث ، من وضع كتاب ، وجلوس مع مبتدع ، ليورد عليه بعض ما يلبس عليه في دينه.

وقال المرّوذيّ : بلغني أنّ أبا عبد الله أنكر على وليد الكرابيسيّ مناظرته لأهل البدع.

وقال المرّوذيّ : قلت لأبي عبد الله : قد جاءوا بكلام فلان ليعرض عليك.

وأعطيته الرقعة ، فكان فيها : والإيمان يزيد وينقص فهو مخلوق ، وإنّما قلت إنّه مخلوق على الحركة والفعل لا على القول ، فمن قال : الإيمان مخلوق ، وأراد القول ، فهو كافر.

فلمّا قرأها أحمد وانتهى إلى قوله : الحركة والفعل ، غضب ، فرمى بها وقال : هذا مثل قول الكرابيسيّ ، وإنّما أراد الحركات مخلوقة ، إذا قال الإيمان مخلوق ، وأيّ شيء بقي؟ ليس يفلح أصحاب الكلام.

قلت : إنّما حطّ عليه أحمد بن حنبل لكونه خاض وأفتى وقسّم ، وفي هذا عبرة وزاجر ، والله أعلم. فقد زجر الإمام أحمد كما ترى في قصّة الرقعة الّتي في الإيمان ، وهي والله بحث صحيح ، وتقسيم مليح. وبعد هذا فقد ذمّ من أطلق الخلق على الإيمان ، باعتبار قول العبد لا باعتبار مقوله ، لأنّ ذلك نوع من الكلام ، وهو كان يذمّ الكلام وأهله ، وإن أصابوا ، ونهى عن تدقيق النّظر في أسماء الله وصفاته ، مع أنّ محمد بن نصر المروزيّ قد سمع إسحاق بن راهويه يقول : خلق الله الإيمان والكفر ، والخير والشّرّ.

فصل في زوجاته وأولاده

قال زهير بن صالح بن أحمد : تزوّج جدّي بأمّ أبي عبّاسة بنت الفضل من العرب من الرّبض ، لم يولد له منها غير أبي. ثمّ ماتت.

قال المرّوذيّ : سمعت أبا عبد الله يقول : أقامت معي أمّ صالح ثلاثين سنة ، فما اختلفت أنا وهي في كلمة.

٩٤

وقال زهير : لمّا ماتت عبّاسة تزوّج جدّي بعدها امرأة من العرب ، يقال لها ريحانة ، فولدت له عبد الله وحده.

وقال أبو بكر الخلّال : ثنا أحمد بن محمد بن خلف البراثيّ : أخبرني أحمد بن عبثر قال : لمّا ماتت أمّ صالح قال أحمد لامرأة عندهم : اذهبي إلى فلانة ابنة عمّي فاخطبيها لي من نفسها.

قالت : فأتيتها فأجابته.

فلما رجعت إليه قال : كانت أختها تسمع كلامك؟

قال : وكانت بعين واحدة.

فقالت له : نعم.

قال : فاذهبي فاخطبي تلك الّتي بعين واحدة.

فأتتها فأجابته. وهي أمّ عبد الله ابنه. فأقام معها سبعا ثمّ قالت له : كيف رأيت يا ابن عمّي؟ أنكرت شيئا؟

قال : لا ، إلّا أن نعلك هذه تصرّ.

فيما تقدّم وهم من أنّ أحمد ، رحمه‌الله ، تزوّج بهذه بعد موت أمّ صالح ، وذلك لا يستقيم ، لأنّ عبد الله ولد لأحمد ، ولأحمد خمسون سنة غير أشهر ، وكان صالح أكبر من عبد الله بسنوات ، لأنّه سمع من عفّان ، وأبي الوليد.

وذكر أبو يعقوب الهرويّ ، وغيره أنّ صالحا ولد سنة ثلاث ومائتين ، ولأبيه إذ ذاك تسع وثلاثون سنة. فصالح أكبر من عبد الله بعشر سنين والله أعلم.

وقال الخلّال : حدّثني محمد بن العبّاس : نا محمد بن عليّ : حدّثني أبو بكر بن يحيى قال : قال أبو يوسف بن بختان : لمّا أمرنا أبو عبد الله أن نشتري له الجارية مضيت أنا وفوزان ، فتبعني أبو عبد الله فقال لي : يا أبا يوسف ، ويكون لها لحم.

قال زهير بن صالح : لمّا توفّيت أمّ عبد الله اشترى حسن ، فولدت منه زينب ، ثمّ الحسن ، والحسين توأما ، وماتا بالقرب من ولادتها ، ثمّ ولدت الحسن ، ومحمدا ، فعاش ، ثمّ حتّى صارا من السّنّ إلى نحو من الأربعين سنة.

٩٥

ثمّ ولدت بعدهما سعيدا.

قال الخلّال : وثنا محمد بن عليّ بن يحيى : سمعت حسن ، أمّ ولد أبي عبد الله تقول :

قلت لمولاي : يا مولاي اصرف فرد خلخالي.

قال : وتطيب نفسك؟

قلت : نعم.

قال : الحمد لله الّذي وفّقك لهذا.

قالت : فأعطيته أبا الحسن بن صالح ، فباعه بثمانية دنانير ونصف ، وفرّقها وقت حملي. فلمّا ولدت حسنا أعطى مولاتي كرّامة درهما ، وهي امرأة كبيرة كانت تخدمهم ، وقال لها : اذهبي إلى ابن شجاع القصّاب يشتري لك بهذا رأسا. فاشترى لنا رأسا ، وجاءت به ، فأكلنا.

فقال لي : يا حسن ، ما أملك غير هذا الدّرهم ، وما لك عندي غير هذا اليوم.

قالت : وكان إذا لم يكن عند مولاي شيء فرح يومه ذلك. فدخل يوما فقال لي : أريد أن احتجم اليوم وليس معي شيء. فجئت إلى جرّة لي فيها غزل ، فبعته بأربعة دراهم ، فاشتريت لحما بنصف درهم ، وأعطى الحجّام درهما ، واشتريت طيبا بدرهم.

ولمّا خرج إلى سرّ من رأى كنت قد غزلت غزلا ليّنا ، وعملت ثوبا حسنا ، فلمّا قدم أخرجته إليه ، قال : ما أريده.

فدفعته إلى فوزان ، فباعه باثنتين وأربعين درهما ، واشتريت منه قطنا ، فغزلته ثوبا كبيرا ، فلمّا أعلمته قال : لا تقطعيه دعيه. فكان كفنه كفّن فيه.

وأخرجت الغليظ فقطعه.

وعن أحمد بن جعفر بن المنادي أنّ أبا عبد الله اشترى جارية بثمن يسير ، سمّاها ريحانة ليسترّى بها. لم يتابع ابن المنادي على هذا.

قال حنبل : ولد سعيد قبل موت أحمد بنحو من خمسين يوما.

٩٦

وقال بعض النّاس : ولي سعيد قضاء الكوفة ، ومات سنة ثلاث وثلاثمائة.

وهذا لا يصحّ. فإنّ سعيدا ولد قبل موت أبيه ، ومات قبل موت أخيه عبد الله بدهر. لأنّ إبراهيم الحربيّ عزّى عبد الله بأخيه سعيد.

وأمّا الحسن ، ومحمد. قال ابن الجوزيّ : فلا نعرف من أخبارهما شيئا.

وأمّا زينب فكبرت وتزوّجت. وله بنت اسمها فاطمة ، إن صحّ ذلك.

ذكر المحنة

ما زال المسلمون على قانون السّلف من أنّ القرآن كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله غير مخلوق ، حتّى نبغت المعتزلة والجهميّة ، فقالوا بخلق القرآن ، متستّرين بذلك في دولة الرشيد. فروى أحمد بن إبراهيم الدّورقيّ ، عن محمد بن نوح ، أنّ هارون الرشيد قال : بلغني أنّ بشر بن غياث يقول : القرآن مخلوق. لله عليّ إن أظفرني به لأقتلنّه.

قال الدّورقيّ : وكان بشر متواريا أيّام الرشيد ، فلمّا مات ظهر بشر ودعي إلى الضّلالة.

قلت : ثمّ إنّ المأمون نظر في الكلام ، وباعث المعتزلة ، وبقي يقدّم رجلا ويؤخّر أخرى في دعاء النّاس إلى القول بخلق القرآن ، إلى أن قوي عزمه على ذلك في السّنة الّتي مات فيها ، كما سقناه.

قال صالح بن أحمد بن حنبل : حمل أبي ، ومحمد بن نوح مقيّدين ، فصرنا معهما إلى الأنبار ، فسأل أبو بكر الأحول أبي فقال : يا أبا عبد الله ، إن عرضت على السّيف تجيب؟.

قال : لا.

ثمّ سيّرا ، فسمعت أبي يقول : صرنا إلى الرّحبة ودخلنا فيها ، وذلك في جوف اللّيل ، فعرض لنا رجل فقال : أيّكم أحمد بن حنبل؟

فقيل له : هذا.

فقال للجمّال : على رسلك. ثمّ قال : يا هذا ، ما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنّة. ثمّ قال : أستودعك الله ، ومضى.

٩٧

قال أبي : فسألت عنه ، فقيل : هذا رجل من العرب من ربيعة يعمل الشّعر في البادية ، يقال له جابر بن عامر ، يذكر بخير (١).

وروى أحمد بن أبي الحواري : ثنا إبراهيم بن عبد الله قال : قال أحمد بن حنبل : ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابيّ كلّمني بها في رحبة طوق ، قال : يا أحمد ، إن يقتلك الحقّ متّ شهيدا ، وإن عشت عشت حميدا. فقوي قلبي.

قال صالح بن أحمد : قال أبي : صرنا إلى أذنة ، ورحلنا منها في جوف اللّيل ، وفتح لنا بابها ، فإذا رجل قد دخل فقال : البشرى ، قد مات الرجل ، يعني المأمون.

قال أبي : وكنت أدعو الله أن لا أراه.

وقال محمد بن إبراهيم البوشنجيّ : سمعت أحمد بن حنبل يقول : تبيّنت الإجابة في دعوتين : دعوت الله أن لا يجمع بيني وبين المأمون ، ودعوته أن لا أرى المتوكّل. فلم أر المأمون ومات بالبذندون (٢) وهو نهر الرّوم ، وأحمد محبوس بالرّقة حتّى بويع المعتصم بالروم ، ورجع فردّ أحمد إلى بغداد.

وأمّا المتوكّل فإنّه لمّا أحضر أحمد دار الخلافة ليحدّث ولده ، قعد له المتوكّل في خوخة (٣) حتّى نظر إلى أحمد ، ولم يره أحمد.

قال صالح : لما صدر أبي ومحمد بن نوح إلى طرسوس ردّا في أقيادهما ، فلمّا صارا إلى الرّقّة حملا في سفينة ، فلمّا وصلا إلى عانات توفّي محمد ، فأطلق عنه قيده ، وصلّى عليه أبي.

وقال حنبل : قال أبو عبد الله : ما رأيت أحدا على حداثة سنّة وقدر علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح. وإنّي لأرجو أن يكون قد ختم له بخير. قال لي

__________________

(١) حلية الأولياء ٩ / ١٩٦.

(٢) البذندون : بفتحتين وسكون النون ، ودال مهملة ، وواو ساكنة ، ونون ، قرية بينها وبين طرسوس يوم من بلاد الثغر. (معجم البلدان ١ / ٣٦١ ، ٣٦٢) ووقع في : حلية الأولياء ٩ / ١٩٦ :

«البذيذون» ، وهو تحريف.

(٣) الخوخة : الباب الصغير.

٩٨

ذات يوم : يا أبا عبد الله ، الله ، الله ، إنّك لست مثلي ، أنت رجل يقتدى بك ، قد مدّ الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك. فاتّق الله واثبت لأمر الله. أو نحو هذا. فمات وصلّيت عليه ودفنته. أظنّه قال : بعانة.

قال صالح : وصار أبي إلى بغداد مقيّدا ، فمكث بالياسريّة أيّاما ، ثمّ حبس في دار اكتريت عند دار عمارة. ثمّ نقل بعد ذلك إلى حبس العامّة في درب الموصليّة (١) ، فقال أبي : كنت أصلّي بأهل السّجن وأنا مقيّد. فلمّا كان في رمضان سنة تسع عشرة حوّلت إلى دار إسحاق بن إبراهيم.

وأمّا حنبل بن إسحاق فقال : حبس أبو عبد الله في دار عمارة ببغداد في إسطبل لمحمد بن إبراهيم أخي إسحاق بن إبراهيم ، وكان في حبس ضيّق ، ومرض في رمضان ، فحبس في ذلك الحبس قليلا ، ثمّ حوّل إلى سجن العامّة ، فمكث في السّجن نحوا من ثلاثين شهرا ، فكنّا نأتيه. وقرأ عليّ كتاب الإرجاء وغيره في الحبس ، فرأيته يصلّي بأهل الحبس وعليه القيد ، فكان يخرج رجله من حلقة القيد وقت الصّلاة والنّوم.

* * *

رجعنا إلى ما حكاه صالح بن أحمد ، عن أبيه : لما حوّل إلى دار إسحاق بن إبراهيم فكان يوجّه إليّ كلّ يوم برجلين ، أحدهما يقال له أحمد بن رباح ، والآخر أبو شعيب الحجّام ، فلا يزالان يناظراني حتّى إذا أرادا الانصراف دعي بقيد ، فزيد في قيودي.

قال : فصار في رجله أربعة أقياد.

قال أبي : فلمّا كان اليوم الثّالث دخل عليّ أحد الرجلين فناظرني ، فقلت له : ما تقول في علم الله؟

قال : إنّه مخلوق.

فقلت له : كفرت.

فقال الرسول الّذي كان يحضر من قبل إسحاق بن إبراهيم : إنّ هذا رسول

__________________

(١) حلية الأولياء ٩ / ١٩٧.

٩٩

أمير المؤمنين.

فقلت له : إنّ هذا قد كفر (١).

فلمّا كان في اللّيلة الرابعة وجّه ، يعني المعتصم ، ببغا الّذي كان يقال له الكبير ، إلى إسحاق ، فأمره بحملي إليه. فأدخلت على إسحاق فقال : يا أحمد ، إنّها والله نفسك ، إنّه لا يقتلك بالسّيف. إنّه قد آلى بان لم تجبه أن يضربك ضربا بعد ضرب ، وأن يقتلك (٢) في موضع لا يرى فيه شمس ولا قمر. أليس قد قال الله عزوجل : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) (٣) ، أفيكون مجعولا إلّا مخلوقا؟

فقلت : قد قال الله تعالى : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (٤) أفخلقهم؟

قال : فسكت. فلمّا صرنا إلى الموضع المعروف بباب البستان أخرجت وجيء بدابّة ، فحملت عليها وعليّ الأقياد ، ما معي أحد يمسكني. فكدت غير مرّة أن أخرّ على وجهي لثقل القيود. فجيء بي إلى دار المعتصم ، فأدخلت حجرة ، وأدخلت إلى البيت ، وأقفل الباب عليّ ، وذلك في جوف اللّيل ، وليس في البيت سراج. فأردت أن أتمسّح للصّلاة ، فمددت يدي ، فإذا أنا بإناء فيه ماء وطست موضوع ، فتوضّأت وصلّيت. فلمّا كان من الغد أخرجت تكنّى من سراويلي ، وشددت بها الأقياد أحملها ، وعطفت سراويلي. فجاء رسول المعتصم فقال : أجب.

فأخذ بيدي وأدخلني عليه ، والتّكّة في يدي أحمل بها الأقياد. وإذا هو جالس ، وابن أبي دؤاد حاضر ، وقد جمع خلقا كثيرا من أصحابه ، فقال لي ، يعني المعتصم : أدنه ، أدنه. فلم يزل يدنيني حتّى قربت منه ، ثمّ قال لي : اجلس. فجلست وقد أثقلتني الأقياد ، فمكثت قليلا ثمّ قلت : أتأذن لي في الكلام؟ فقال : تكلّم.

__________________

(١) في هامش الأصل : إنّما كفّره لأنّه إذا كان علمه مخلوقا لزم أن يكون في الأزل بغير علم حتّى خلقه. تعالى الله عمّا يقول الظّالمون ....

(٢) في حلية الأولياء ٩ / ١٩٧ «وأن يلقيك».

(٣) سورة الزخرف ، الآية ٣.

(٤) سورة الفيل ، الآية ٥.

١٠٠