تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام - ج ٩

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الطبقة الخامسة عشرة

سنة إحدى وأربعين ومائة

فيها توفي أسماء بن عبيد والد جويرية بن أسماء ، وأبان بن تغلب (١) الكوفي ، وإسحاق بن راشد ، والحسين بن عبد الله بن عبيد الله الهاشمي العباسي ، والحسين ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وسعد بن سعيد الأنصاري أخو يحيى ابن سعيد ، وابو إسحاق الشيبانيّ سليمان بن فيروز ، وسليمان الأحول قاضي المدائن بخلف فيه ، وعاصم الأحول في قول الهيثم بن عديّ ، وعثمان البتّي في قول ، والقاسم بن الوليد الهمدانيّ الكوفي ، وموسى بن عقبة صاحب المغازي ، وموسى بن كعب أمير ديار مصر.

* * *

وفيها كان ظهور الراوندية.

قال أبو الحسن المدائني : هم قوم من خراسان على رأي أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة ، يقولون فيما زعم بتناسخ الأرواح ، فيزعمون أن روح آدم عليه‌السلام حلّت في عثمان بن نهيك ، وأن المنصور هو ربّهم الّذي يطعمهم ويسقيهم وأن الهيثم بن معاوية هو جبريل. قال : فأتوا قصر المنصور فجعلوا يطوفون به ويقولون : هذا (٢) ، فقبض المنصور منهم على نحو المائتين من

__________________

(١) في نسخة القدسي ٦ / ١ «ثعلب» ، والصواب «تغلب» بالتاء والغين المعجمة ، كما سيأتي في ترجمته. وانظر : ابن الأثير ٥ / ٥٠٨.

(٢) في تاريخ الطبري ٧ / ٥٠٥ : «هذا قصر ربّنا». وكذلك في : الفخري ١٦٠.

٥

الكبار ، فغضب الباقون وقالوا : علام حبسوا؟ ثم عهدوا إلى نعش فخفّوا به ، يوهمون أنها جنازة قد اجتمعوا لها ، ثم إنهم مرّوا بها على باب السجن فعنده شدّوا على الناس بالسلاح واقتحموا السجن فأخرجوا أصحابهم الذين قبض عليهم المنصور ، وقصدوا نحو المنصور ، وهم نحو من ستمائة ، فتنادى الناس ، وأغلقت المدينة ، وخرج المنصور من قصره ماشيا لم يجد فرسا ، فأتي بدابّة وهو يريدهم ، فجاءه معن بن زائدة فترجّل له وعزم عليه وأخذ بلجام الدابّة ، وقال : إنك تكفى يا أمير المؤمنين. وجاء مالك بن الهيثم فوقف على باب القصر ، ثم قاتلوهم حتى أثخنوهم.

وجاء خازم بن خزيمة فقال : يا أمير المؤمنين أقتلهم؟ قال : نعم. فحمل عليهم حتى ألجأهم إلى الحائط ، فكرّوا على خازم فهزموه ، ثم كرّ عليهم هو والهيثم بن شعبة بجندهما ، وأحاطوا بهم ، ووضعوا فيهم السيف فأبادوهم ، فلا رحمهم‌الله.

وقد جاءهم يومئذ عثمان بن نهيك فكلّمهم ، فرموه بنشّابة ، فمرض منها ومات ، فاستعمل المنصور مكانه على الحرس أخاه عيسى بن نهيك. وكان هذا كله في المدينة الملقّبة بالهاشمية وهي بقرب الكوفة.

ثم إن المنصور قدم سماطا بعد العصر وبالغ في إكرام معن.

وروى المدائني عن أبي بكر الهذليّ قال : إني لواقف بباب القصر إذ أطلع رجل إلى المنصور فقال : هذا رب العزة الّذي يرزقنا ويطعمنا. قال : فحدّثت المنصور بعد ذلك فقال : يا هذليّ يدخلهم الله النار في طاعتنا ونقتلهم ، أحبّ إلينا من أن يدخلهم الله الجنة في معصيتنا.

وعن الفضل بن الربيع عن أبيه أنه سمع المنصور يقول : أخطأت ثلاث خطآت وقى الله شرّها : قتلت أبا مسلم وأنا في خرق ، ومن حولي يقدّم طاعته

٦

ويؤثرها ولو هتكت الخرق لذهبت ضياعا (١). وخرجت إلى الشام ولو اختلف سيفان بالعراق ذهبت الخلافة ضياعا.

وقيل : كان معن بن زائدة ممن قاتل المسوّدة (٢) مع ابن هبيرة ، فلما قامت دولة المسوّدة اختفى معن إلى أن ظهر يوم الراونديّة ، فأبلى يومئذ وبرّز حتى كان النصر على يديه ، ثم اختفى كما هو ، فتطلّبه المنصور ونودي بأمانه فأتي به فأمر له بمال جليل وولّاه اليمن.

* * *

وفيها أمّر المنصور ابنه المهديّ وجعله وليّ عهد المسلمين وبعثه على خراسان وأن ينزل الريّ ، ففعل ، وبلغ المنصور أن أمير خراسان عبد الجبار الأزديّ يقتل رؤساء الخراسانيين ، فقال لأبي أيوب الخوزي : إن هذا قد أفنى شيعتنا ولم يفعل هذا إلا وهو يريد أن يخلع الطاعة. فقال : أكتب إليه أنك تريد غزو الروم فليوجّه إليك الجند والفرسان ، فإذا خرجوا بعثت إليه من شئت ، فليس به امتناع ، فكتب إليه بذلك فكان جوابه أن الترك قد جاشت ، وإن فرّقت الجنود ذهبت خراسان ، فكتب المنصور إليه بمشورة أبي أيوب : إن خراسان أهم من غيرها ، وإنّي موجّه إليك جيشا مددا من عندي ، يريد المنصور بهذا أن عبد الجبار إن همّ بالخروج وثبوا عليه ، فكان جوابه : إن خراسان مجدبة وأخاف من الغلاء على الجند. فقال أبو أيوب المنصور : هذا رجل قد أبدى صفحته وقد خلع فلا تناظره (٣) ، فوجّه إليه خازم بن خزيمة. قال : فجهّز المهدي من الريّ خازم بن خزيمة لحربه مقدّمة ، ثم سار المهديّ إلى أن قدم

__________________

(١) وفي تاريخ الطبري ٧ / ٥٠٧ : «وخرجت يوم الراونديّة ولو أصابني سهم غرب لذهبت ضياعا».

(٢) أصحاب الملابس السوداء ، أي العبّاسيين.

(٣) أي لا تمهله.

٧

نيسابور ، فلما بلغ ذلك أهل مروالرّوذ ساروا إلى عبد الجبار فقاتلوه فهزموه ، فالتجأ إلى مكان ، فعبر إليه المجشّر (١) بن مزاحم بجند مروالرّوذ فأسره ، ثم أتى به خازم بن خزيمة فألبسه عباءة وأركبه بعيرا مقلوبا وسيّره إلى المنصور في طائفة من أصحابه وأولاده ، فبسط عليهم العذاب ، واستخرج منهم الأموال ، ثم قتل عبد الجبار وسيّر أولاده إلى جزيرة دهلك (٢) ببحر اليمن ، فلم يزالوا بها حتى أغارت الهند عليهم فأسروهم ونجا منه عبد الرحمن ولد عبد الجبار ، فجاء فكتب في الديوان وبقي بمصر حيا إلى سنة سبعين (٣) ومائة.

* * *

وفيها انتهى بناء مدينة المصّيصة بتولّي جبريل بن يحيى الخراسانيّ.

وفيها افتتح المسلمون طبرستان وغنموا غنائم عظيمة بعد حروب جرت.

وفيها عزل عن المدينة ومكة زياد بن عبيد الله. ثم ولي المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسريّ ، وولي مكة الهيثم بن معاوية العتكيّ (٤).

وحجّ بالناس أمير الشام صالح بن علي العباسي.

وفيها استناب المهديّ عنه على خراسان الأمير أسد بن عبد الله.

__________________

(١) في نسخة القدسي ٦ / ٣ «المحشر». بالحاء المهملة ، وما أثبتناه عن الطبري ٧ / ٥٠٩.

(٢) في الأصل «هلك» والتصحيح من الطبري ٧ / ٥٠٩ وابن الأثير ٥ / ٥٠٦.

(٣) في نسخة القدسي ٦ / ٣ «تسعين» والتصحيح من الطبري ٧ / ٥٠٩ وابن الأثير ٥ / ٥٠٦.

(٤) في نسخة القدسي ٦ / ٣ «العكي» والتصحيح من الطبري ٧ / ٥١١ وابن الأثير ٥ / ٥٠٧.

٨

سنة اثنتين وأربعين ومائة

فيها توفي أسلم المنقري ، وحبيب بن أبي عمرة القصاب ، والحسن بن عبيد الله ، والحسن بن عمرو الفقيمي ، وأبو هانئ حميد بن هاني الخولانيّ المصري ، وحميد الطويل في قول. وخالد الحذّاء ، وسعد بن إسحاق بن كعب في قول ، والأمير سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس ، وعاصم بن سليمان الأحول بخلف ، وعمرو بن عبيد المعتزلي فيها أو في سنة ثلاث ، ومحمد بن أبي إسماعيل الكوفي ، وهارون بن عنترة.

* * *

وفيها نزع الطاعة متولّي السند عيينة بن موسى بن كعب فخرج المنصور بالجيش فنزل البصرة وجهّز عمر بن حفص العتكيّ محاربا ومتولّيا على السند والهند فسار حتى غلب على السند واستوثق له الأمر.

* * *

وفيها نقض أصبهبذ طبرستان وقتل من ببلاده من المسلمين ، فانتدب له خازم بن خزيمة وروح بن حاتم وأبو الخصيب مرزوق مولى المنصور ، فحاصروه في قلعته ، وطال الحصار ، ولم يزالوا إلى أن احتال مرزوق ، فقال لأصحابه : اضربوني واحلقوا رأسي ولحيتي ، ففعلوا ذلك فلحق بالأصبهبذ ففتح له فدخل إليه. فقال : إنما فعلوا بي ما رأيت تهمة منهم لي بأنّ هواي معك ،

٩

وأخبره بأنه معه فإنه يدلّه على عورة العسكر ، فوثق به وقرّبه. وكان باب قلعته حجرا (١) ، فلم يزل يظهر له النصيحة والأصبهبذ يغترّ إلى أن صيّره أحد من يتولّى الباب فرأى منه ما يحب : ثم نفّذ مرزوق إلى العسكر في نشّابة (٢) ووعدهم ليلة معيّنة في فتح باب الحصن ، ثم فعل ذلك ، ودخلوا وقتلوا المقاتلة وسبوا الحريم ، فمصّ الأصبهبذ سما في خاتمه فهلك من جملة السبي شكلة والدة إبراهيم بن المهدي من بنات الأمراء ووالدة منصور بن المهدي المعروفة بالخيّرة من بنات الملوك.

* * *

وفيها عزل عن إمرة مصر نوفل بن الفرات بمحمد بن الأشعث ، ثم عزل محمد وأعيد نوفل ثم عزل ثانيا فوليها حميد بن قحطبة.

وفيها حج بالناس إسماعيل بن علي. وقيل : فيها استعمل المنصور أخاه عبّاسا على بلاد الجزيرة والثغر.

* * *

وفيها كان توثّب العبيد بالبصرة فانتدب لهم صاحب الشرطة فقتلهم.

* * *

وفيها ولي محمد بن أبي عيينة بن المهلّب بن أبي صفرة البحر فنزل مدينة قيس ، وهي جزيرة في البحر ، فجاءته مراكب الهنود فلم يخرج إليهم ، فخرج ابنه فقتل وقتل معه طائفة ، ثم هرب محمد منها فدخلها العدو فخرّبوها.

__________________

(١) في تاريخ الطبري ٧ / ٥١٣ : «كان باب مدينتهم من حجر يلقى إلقاء يرفعه الرجال ، وتضعه عند فتحه وإغلاقه» ، ومثله في الكامل لابن الأثير ٥ / ٥١٠.

(٢) أي ألقى إليهم كتابا في سهم.

١٠

قال خليفة بن خياط (١) : فهي خراب إلى اليوم.

قلت : هي اليوم عامرة يسافر إليها التجار وهي جزيرة كيش كذا ينطقون بها.

__________________

(١) تاريخ خليفة بن خياط ـ ص ٤١٩ (حوادث سنة ١٤١ ه‍.).

١١

سنة ثلاث وأربعين ومائة

فيها توفي حجّاج بن أبي عثمان الصوّاف ، وحميد الطويل على الصحيح ، وحيي بن عبد الله المعافري ، وخطّاب بن صالح المدني ، وعبد الرحمن بن الحارث المخزومي المدني ، وعبد الرحمن بن عطاء المدني ، وعبد الرحمن بن ميمون المدني بمصر ، وعلي بن أبي طلحة مولى بني هاشم. وليث بن أبي سليم في قول ، ومطرف بن طريف في قول ، ويحيى بن سعيد الأنصاري.

* * *

وفيها سار أبو الأحوص العبديّ في ستة آلاف فارس من مصر إلى افريقية فنزل برقة ثم التقى هو وأبو الخطاب الإباضي فانهزم أبو الأحوص ، فسار أمير مصر بنفسه وجيوشه وهو محمد بن الأشعث فالتقى هو والإباضيّة فقتل في المصافّ أبو الخطاب ، وانهزموا (١).

* * *

وفيها بلغ المنصور أن الديلم قد أوقعوا بالمسلمين وقتلوا منهم خلائق فندب الناس للجهاد (٢).

__________________

(١) تاريخ خليفة ٤٢٠.

(٢) تاريخ الطبري ٧ / ٥١٥ ، ابن الأثير ٥ / ٥١٢.

١٢

وفيها عزل الهيثم عن مكة بالسريّ بن عبد الله بن الحارث بن العباس العبّاسي فأتي بكتاب عهده وهو في اليمامة.

* * *

وفيها عزل عن مصر حميد بن قحطبة وأعيد نوفل ثالثا ، ثم عزل نوفل ووليها يزيد بن حاتم الأزدي.

وحج بالناس عيسى بن موسى بن محمد بن علي الهاشمي أمير الكوفة.

* * *

وفي هذا العصر شرع علماء الإسلام في تدوين الحديث والفقه والتفسير ، فصنّف ابن جريج التصانيف بمكة ، وصنف سعيد بن أبي عروبة ، وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة ، وصنّف الأوزاعي بالشام ، وصنّف مالك الموطّأ بالمدينة ، وصنّف ابن إسحاق المغازي ، وصنّف معمر باليمن ، وصنّف أبو حنيفة وغيره الفقه والرأي بالكوفة ، وصنّف سفيان الثوري «كتاب الجامع» ، ثم بعد يسير صنّف هشيم كتبه ، وصنّف الليث بمصر وابن لهيعة ثم ابن المبارك وأبو يوسف وابن وهب. وكثر تدوين العلم وتبويبه ، ودوّنت كتب العربية واللغة والتاريخ وأيام الناس. وقبل هذا العصر كان سائر الأئمة يتكلمون عن حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتّبة. فسهل ولله الحمد تناول العلم ، وأخذ الحفظ يتناقص ، فلله الأمر كله.

١٣

سنة اربع وأربعين ومائة

فيها توفي إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة أحد الضعفاء ، وإسماعيل بن أبي أميّة في قول ، وأسيد بن عبد الرحمن الفلسطيني ، وأبو عبد الرحيم خالد بن أبي يزيد الحراني ، وسعيد الجريريّ. وسليمان التيمي في قول. وعبد الله بن حسن بن حسن في قول. وعبد الله بن أبي سبرة المدني. وعبد الله بن شبرمة الفقيه. وعقيل بن خالد الأيلي. وعبد الأعلى بن السمح الفقيه بمصر. وعمرو ابن عبيد في قول. ومجالد بن سعيد. وهلال بن حباب. وواصل بن السائب الرقاشيّ. ويزيد بن أبي مريم الدمشقيّ.

* * *

وفيها غزا محمد بن السفاح الديلم بجيش الكوفة والبصرة وواسط والجزيرة.

* * *

وفيها قدم المهدي من خراسان فدخل بابنة عمه ريطة بنت السفاح.

* * *

وفيها حج المنصور وخلف على العساكر خازم بن خزيمة فاستعمل على المدينة رياح بن عثمان المرّي وعزل محمدا القسريّ.

وكان المنصور قد أهمّه شأن محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن الحسن

١٤

ابن علي بن أبي طالب لتخلّفهما عن الحضور عنده مع الأشراف ، فقيل إن محمدا ذكر أن المنصور لما حج في حياة أخيه السفاح كان ممن بايع له ليلة اشتور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة حين اضطرب أمر بني أمية فسأل المنصور زيادا متولّي المدينة عن ابني عبد الله بن حسن. فقال : ما يهمك يا أمير المؤمنين من أمرهما أنا آتيك بهما ، فضمّنه إياهما في سنة ست وثلاثين ومائة (١).

قال عبد العزيز بن عمران : حدثني عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر. قال : لما استخلف المنصور لم يكن همه إلا طلب محمد والمسألة عنه بكل طريق ، فدعا بني هاشم واحدا واحدا كلهم يخليه ويسأله عنه فيقولون : يا أمير المؤمنين قد علم أنك قد عرفته بطلب هذا الشأن قبل اليوم فهو يخافك وهو الآن لا يريد لك خلافا ولا معصية. وأما حسن بن زيد فأخبره بأمره وقال : لا آمن أن يخرج. فذكر يحيى البرمكي أن المنصور اشترى رقيقا من رقيق الأعراب فكان يعطي الرجل منهم البعير والبعيرين وفرّقهم في طلب محمد بن عبد الله بأطراف المدينة يتجسّسون أمره وهو مختف.

وذكر السندي مولى المنصور قال : رفع عقبة بن مسلم الأزديّ عند المنصور واقعة وذلك أن عمر بن حفص أوفد من السند وفدا فيهم عقبة فأعجب المنصور هيئته فاستخلى به وقال : إني لأرى لك هيئة وموضعا وإني لأريدك لأمر وأنا به معنى لم أزل أرتاد له رجلا عسى أن تكون ، فإن كفيتنيه رفعتك. فقال : أرجو أن أصدق ظنّ أمير المؤمنين فيّ. قال : فاخف شخصك واستر أمرك وأتني يوم كذا ، فأتاه في الوقت المعين. فقال له : إن بني عمّنا هؤلاء قد أبوا إلا كيدا لملكنا واغتيالا له ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا يكاتبونهم ويرسلون إليهم بصدقات أموالهم فاخرج إليهم بكسوة وألطاف حتى تأتيهم بكتاب مبتكر

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ / ٥١٨.

١٥

تكتبه عن أهل هذه القرية ، ثم تسير إلى بلادهم فإن كانوا قد نزعوا عن رأيهم فأحبب والله بهم وأقرب وإن كانوا على رأيهم علمت ذلك وكنت على حذر فاشخص حتى تلقى عبد الله بن حسن متقشّفا متخشّعا فإن جبهك ـ وهو فاعل ـ فاصبر حتى يأنس بك ويلين لك ناحيته. فإذا ظهر لك ما في قلبه (١) فأعجل عليّ. قال : فشخص عقبة حتى قدم على عبد الله فلقيه بالكتاب فأنكره وانتهره وقال : ما أعرف هؤلاء ، فلم يزل ينصرف ويعود إليه حتى قبل الكتاب وألطافه وأنس به فسأله عقبة الجواب ، فقال : أما الكتاب فإنّي لا أكتب إلى أحد ، ولكن أنت كتابي إليهم ، فسلّم عليهم وأخبرهم أن ابنيّ خارجان لوقت كذا وكذا. فأسرع عقبة بهذا إلى المنصور.

وقيل : كان محمد وإبراهيم ابنا عبد الله منهومين بالصيد.

وقال المدائني : قدم محمد البصرة مختفيا في أربعين رجلا فأتى عبد الرحمن ابن عثمان بن عبد الرحمن بن هشام فقال له عبد الرحمن : أهلكتني وشهّرتني فانزل عندي وفرّق أصحابك ، فأبى عليه فقال : أنزل في بني راسف ، ففعل.

وقال غيره : أقام محمد يدعو الناس سرا.

وقيل : نزل على عبد الله بن سفيان المرّي ، ثم خرج بعد ستة أيام فسار المنصور حتى نزل الجسر.

وكان المنصور لما حج سنة أربعين ومائة أكرم عبد الله بن الحسن ثم قال لعقبة : تراءى له ثم قال : يا أبا محمد قد علمت ما أعطيتني من العهود أن لا تبغي سوءا. قال : فأنا على ذلك ، فاستدار له عقبة حتى قام بين يديه فأعرض عنه فأتاه من ورائه فغمزه بإصبعيه فرفع رأسه بغتة فملأ عينه منه فوثب حتى جلس

__________________

(١) في نسخة القدسي ٦ / ٧ «ما قبله» والتصحيح عن الطبري ٧ / ١٢٠.

١٦

بين يدي المنصور ، فقال : أقلني يا أمير المؤمنين أقالك الله. قال : لا أقالني الله إن أقلتك ثم سجنه.

وجاء من وجه آخر أن المنصور أقبل على عبد الله ، فقال : أرى ابنيك قد استوحشا مني وإني لأحب أن يأنسا بي وأن يأتياني فأخلطهما بنفسي ، فقال : وحقّك يا أمير المؤمنين ما لي بهما علم ولا بموضعهما ولقد خرجا عن يدي.

فبقي في سجن المنصور ثلاثة أعوام.

وقيل : إن محمدا وإبراهيم همّا باغتيال المنصور بمكة وواطأهما قائد كبير من قوّاده فنمي الخبر إلى المنصور ، فاحترز وطلب القائد فهرب ، وأقبل أبو جعفر المنصور يلحّ في طلب محمد حتى أعياه وجعل زياد بن عبيد الله يدافع عن محمد ، فقبض المنصور على زياد واستأصل أمواله واستعمل على المدينة محمد بن خالد القسريّ وأمره ببذل الأموال في طلب محمد وأخيه ، فبذل أكثر من مائة ألف دينار فلم يصنع شيئا ولا قدر عليهما فاتّهمه المنصور ، فعزله ، وولىّ رياح بن عثمان بن حيّان المرّي ، فدعا القسريّ فسأله عن الأموال ، فقال : هذا كاتبي وهو أعلم بها فقال : أسألك وتحيلني على كاتبك! فأمر به رياح فوجئت عنقه وضرب أسواطا ثم بسط العذاب على كاتبه وعلى مولاه فأسرف وجدّ في طلب محمد بن عبد الله فأخبر أنه في شعب من شعاب رضوى وهو جبل جهينة من أعمال ينبع. قال : فاستعمل على ينبع عمرو بن عثمان الجهنيّ وأمره بتطلّب محمد ، فخرج عمرو إليه ليلة بالرجال ففزع محمد وفر منهم ، فانفلت ، وله ابن صغير ، ولد له هناك من جارية فوقع الطفل من الجبل من يد أمه فتقطّع ، فقال محمد بن عبد الله :

منخرق السّربال يشكو الوجى

تنكبه أطراف مرو حداد

شرّده الخوف وأزرى (١) به

كذاك من يكره حرّ الجلاد

 __________________

(١) في تاريخ الطبري ٧ / ٥٣٥ «فازرى».

١٧

قد كان في الموت له راحة

والموت حتم في رقاب العباد

فلما طال أمر الأخوين على المنصور أمر رياحا بأخذ بني حسن وحبسهم ، فأخذ حسنا وإبراهيم ابني حسن بن حسن وحسن بن جعفر بن حسن بن حسن ، وسليمان وعبد الله ابني داود بن حسن بن حسن ، وأخاه عليّا العابد ، ثم قيّدهم وجهر على المنبر بسبّ محمد بن عبد الله وأخيه فسبّح الناس وعظّموا ما قال ، فقال رياح : ألصق الله بوجوهكم الهوان لأكتبنّ إلى خليفتكم غشّكم وقلّة نصحكم ، فقالوا : لا سمع منك يا بن المحدودة (١) وبادروه يرمونه بالحصى ، فنزل واقتحم دار مروان وأغلق الباب ، فحفّ بها الناس فرموه وشتموه ، ثم أنهم كفوا ، ثم إن آل حسن حملوا في أقيادهم إلى العراق ، ولما نظر إليهم جعفر الصادق وهم يخرج بهم من دار مروان جرت دموعه على لحيته ، ثم قال : والله لا تحفظ لله حرمة بعد هؤلاء ، وأخذ معهم أخوهم من أمهم محمد ابن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان وهو ابن فاطمة بنت الحسين.

وقال الواقدي : أنا رأيت عبد الله بن حسن وأهل بيته يخرجون من دار مروان وهم في الحديد فيجعلون في المحامل عراة ليس تحتهم وطاء وأنا يومئذ قد راهقت الاحتلام.

قال الواقدي : قال عبد الرحمن بن أبي الموالي ـ وأخذ معهم يومئذ نحو من أربعمائة نفس من جهينة ومزينة وغيرهم ، فأراهم بالرّبذة ملتفين في الشمس ـ وسجنت مع عبد الله بن حسن فوافى المنصور الرّبذة منصرفا من الحج فسأل عبد الله بن حسن من المنصور أن يأذن له في الدخول فامتنع ، ثم دعاني المنصور من بينهم فأدخلت عليه وعنده عمه عيسى بن عليّ فسلّمت ، فقال المنصور : لا سلّم الله عليك ، أين الفاسقان ابنا الفاسق ، فقلت : هل ينفعني

__________________

(١) في تاريخ الطبري ٧ / ٥٣٧ «لا نسمع منك يا بن المحدود».

١٨

الصدق يا أمير المؤمنين؟ قال : وما ذاك؟ قلت : امرأتي طالق وعليّ وعليّ إن كنت أعرف مكانهما ، فلم يقبل مني ، وأقمت بين العقابين ، فضربني أربعمائة سوط ، فغاب عقلي ورددت إلى أصحابي ، ثم أحضر الديباج وهو محمد بن ابن عبد الله العثماني فسأله عنهما فحلف له ، فلم يقبل ، وضربه مائة سوط ، وجعل في عنقه غلّا فأتي به إلينا وقد لصق قميصه على جسمه من الدماء ، ثم سيّر بنا إلى العراق. فأول من مات بالحبس عبد الله بن حسن ، فصلّى عليه أخوه حسن ، ثم مات حسن بعده فصلّى عليه الديباج ، ثم مات الديباج فقطع رأسه وأرسل مع جماعة من الشيعة ليطوفوا به بخراسان ويحلفوا أن هذا رأس محمد بن عبد الله بن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوهمون الناس أنه رأس محمد ابن عبد الله بن حسن الّذي كانوا يجدون في الكتب خروجه فيما زعموا على أبي جعفر.

وقيل : لما أتي بهم المنصور نظر إلى محمد بن إبراهيم بن حسن فقال : أنت الديباج الأصفر؟ قال : نعم. قال : أما والله لأقتلنّك قتلة ما قتلها أحد من أهل بيتك ، ثم أمر باسطوانة فنقرت ، ثم أدخل فيها ثم شدّ عليه وهو حي ، وكان محمد من أحسن الناس صورة.

وقيل : إن المنصور قتل محمد بن عبد الله الديباج وجاء من غير وجه أنه قتله فالله أعلم.

وروى عن موسى بن عبد الله بن حسن. قال : ما كنا نعرف في الحبس أوقات الصلاة إلا بأجزاء كان يقرؤها علي بن الحسن.

وقيل : إن المنصور أمر بقتل عبد الله بن حسن سرا.

وقال ابن عائشة : سمعت مولى لبني دارم قال : قلت لبشير الرحّال : ما تسرّعك إلى الخروج على هذا الرجل؟ قال : إنه أرسل إليّ بعد أخذه عبد الله

١٩

ابن حسن ، فأتيته ، فأمرني بدخول بيت فدخلته فإذا بعبد الله بن حسن مقتولا ، فسقطت مغشيّا عليّ ، فلما أفقت أعطيت الله عهدا أن لا يختلف في أمره سيفان إلا وكنت عليه ، ثم قلت للرسول الّذي معي من قبله : لا تخبره بما أصابني فيقتلني.

ويقال : إن المنصور سقى السم غير واحد منهم.

٢٠