تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

١
٢

٣
٤

سنة احدى عشرة

خلافة الصّدّيق رضي‌الله‌عنه وأرضاه

قال هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة إنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفّي وأبو بكر بالسّنح (١) ، فقال عمر : والله ما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال عمر : والله ما كان يقع في نفسي إلّا ذاك ، وليبعثنّه الله فيقطع أيدي رجال وأرجلهم ، فجاء أبو بكر الصّدّيق فكشف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقبّله ، وقال : بأبي أنت وأمّي ، طبت حيّا وميتا ، والّذي نفسي بيده لا يذيقك الله موتتين أبدا ، ثم خرج فقال : أيّها الحالف على رسلك ، فلمّا تكلّم أبو بكر جلس عمر ، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه : من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت ، وقال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٢). وقال (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (٣). الآية ، فنشج النّاس يبكون ، واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة (٤) ، فقالوا : منّا أمير ومنكم أمير ، فذهب إليهم

__________________

(١) السّنح : بضمّ أوّله وثانيه : منازل بني الحارث بن الخزرج بالمدينة ، بينها وبين منزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ميل. وضبطه في التاج بسكون النون وضمّها أيضا. (معجم ما استعجم ٣ / ٧٦).

(٢) سورة الزمر ، الآية ٣٠.

(٣) سورة آل عمران ، الآية ١٤٤.

(٤) هي بالقرب من دار سعد بن عبادة زعيم الأنصار.

٥

أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ، فذهب عمر يتكلّم فسكّته أبو بكر ، فكان عمر يقول : والله ما أردت بذلك إلّا أنّي هيّأت كلاما قد اعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر ، فتكلم فأبلغ ، فقال في كلامه : نحن الأمراء وأنتم الوزراء (١) ، فقال الحباب بن المنذر : لا والله لا نفعل أبدا ، منّا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر : لا ، ولكنّا الأمراء وأنتم الوزراء ، قريش أوسط العرب دارا وأعزّهم أحسابا فبايعوا عمر بن الخطّاب أو أبا عبيدة ، فقال عمر : بل نبايعك ، أنت خيرنا وسيّدنا وأحبّنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه النّاس. فقال قائل : قتلتم سعد بن عبادة ، فقال عمر : قتله الله. رواه سليمان بن بلال عنه ، وهو صحيح السّند (٢).

وقال مالك ، عن الزّهري ، عن عبيد الله ، عن ابن عبّاس ، أنّ عمر خطب النّاس فقال في خطبته : وقد بلغني أنّ قائلا يقول : «لو مات عمر بايعت فلانا» فلا يغترّنّ أمرؤ أن يقول : كانت بيعة أبي بكر فلتة ، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر ، وإنّه كان من خيرنا حين توفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) اجتمع المهاجرون ، وتخلّف عليّ والزّبير في بيت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتخلّف الأنصار في سقيفة بني ساعدة ، فقلت : يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار ، فانطلقنا نؤمّهم ، فلقينا رجلان صالحان من الأنصار فقالا : لا عليكم أن لا تأتوهم وأبرموا أمركم ، فقلت : والله لنأتينّهم ، فأتيناهم في سقيفة بني ساعدة ، فإذا هم مجتمعون على رجل

__________________

(١) من هنا إلى قوله (الوزراء) ساقط من نسخة دار الكتب.

(٢) الحديث أخرجه البخاري في المغازي ٥ / ١٤٣ باب مرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووفاته ، وانظر : طبقات ابن سعد ٢ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩ ، وتاريخ الطبري ٣ / ٢٠٢ ، ٢٠٣ ، وسيرة ابن هشام ٤ / ٢٦٠ ، وأنساب الأشراف للبلاذري ١ / ٥٨١ ، ٥٨٢ ، والبدء والتاريخ لمطهر المقدسي ٥ / ٦٣ ، ٦٤ ، ونهاية الأرب للنويري ١٨ / ٣٨٥.

(٣) سقطت هنا أسطر من نسخة (ع).

٦

مزمّل (١) بالثياب ، فقلت : من هذا؟ قالوا : سعد بن عبادة مريض ، فجلسنا ، وقام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أمّا بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإيمان ، وأنتم معشر المهاجرين رهط منّا ، وقد دفّت إليكم دافّة (٢) يريدون أن يختزلونا (٣) من أصلنا ويحضنونا (٤) من الأمر.

قال عمر : فلمّا سكت أردت أن أتكلّم بمقالة قد كانت أعجبتني بين يدي أبي بكر : فقال أبو بكر : على رسلك ، وكنت أعرف منه الجدّ (٥) ، فكرهت أن أغضبه ، وهو كان خيرا منّي وأوفق وأوقر ، ثم تكلّم فو الله ما ترك كلمة أعجبتني إلّا قد قالها وأفضل منها حتّى سكت ، ثم قال : أمّا بعد : ما ذكرتم من خير فهو فيكم معشر الأنصار ، وأنتم أهله وأفضل منه ، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلّا لهذا الحيّ من قريش ، هم أوسط العرب نسبا ودارا ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أيّهما شئتم ، وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجرّاح ، قال : فما كرهت شيئا ممّا قاله غيرها. كان والله أن أقدّم فتضرب عنقي لا يقرّبني ذلك إلى إثم أحبّ إليّ من أن أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر إلا أن تتغيّر نفسي عند الموت ، فقال رجل من الأنصار (٦) : أنا جذيلها المحكّك (٧) وعذيقها المرجّب (٨) ، منّا أمير ومنكم أمير معشر

__________________

(١) مزّمّل : ملتفّ في كساء أو غيره.

(٢) الدّافّة : القوم يسيرون جماعة سيرا ليس بالشديد.

(٣) أي يقتطعونا. وفي البدء والتاريخ ٥ / ٦٥ «يحتازونا» ، وكذلك في سيرة ابن هشام ٤ / ٢٦١.

(٤) كذا في الأصل ، بمعنى يخرجونا. وفي حاشية الأصل ، والنسخة (ح) : «يمنعونا» وكذلك في النسخة (ع) ، وفي المنتقى لابن الملا «يمحصونا» وهو تصحيف. وفي تاريخ الطبري ٣ / ٢٠٥ «يغصبونا».

(٥) كذا في الأصل ، وفي سيرة ابن هشام ٤ / ٢٦١ ، وتاريخ الطبري ٣ / ٢٠٥ «الحدّ» بالحاء المهملة ، أي الحدّة.

(٦) هو الحباب بن المنذر الأنصاريّ.

(٧) الجذيل : تصغير جذل. وهو عود يكون في وسط مبرك الإبل تحتكّ به وتستريح إليه ، فيضرب به المثل في الرجل يشتفى برأيه.

(٨) العذيق : تصغير عذق ، وهو النخلة نفسها. والمرجّب : الّذي تبنى إلى جانبه دعامة. ترفده

٧

المهاجرين ، قال : وكثر اللّغط وارتفعت الأصوات حتى خشيت الاختلاف ، فقلنا : أبسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون وبايعه الأنصار ، ونزوا (١) على سعد بن عبادة ، فقال قائل : قتلتم سعدا. فقلت : قتل الله سعدا ، قال عمر : فو الله ما وجدنا فيما حضرنا أمرا أوفق من مبايعة أبي بكر ، خشينا إن نحن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة ، فإمّا بايعناهم على ما لا نرضى ، وإمّا خالفناهم فيكون فساد. رواه يونس بن يزيد (٢) ، عن الزّهريّ بطوله ، فزاد فيه : قال عمر : «فلا يعتزل امرؤ أن يقول : إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمّت ، فإنّها قد كانت كذلك إلّا أنّ الله وقى شرّها ، فمن بايع رجلا عن غير مشورة فإنّه لا يتابع هو ولا الّذي بايعه تغرّة (٣) أن يقتلا». متّفق على صحّته (٤).

__________________

= لكثرة حمله ولعزّه على أهله ، فضرب به المثل في الرجل الشريف الّذي يعظّمه قومه.

(١) نزوا : وثبوا عليه ووطئوه.

(٢) في نسخة دار الكتب (زيد) وهو وهم ، على ما في الأصل و (ع) و (التاريخ الكبير للبخاريّ ٢ / ٤ / ٤٠٦).

(٣) حقّ البيعة أن تكون صادرة عن المشورة والاتّفاق ، فإذا استبدّ رجلان دون الجماعة فبايع أحدهما الآخر ، فذلك تظاهر منهما بشقّ العصا واطّراح الجماعة ، فإن عقد لأحد بيعة فلا يكون المعقود له واحدا منهما ، وليكونا معزولين من الطائفة التي تتّفق على تمييز الإمام منها ، لأنّه إن عقد لواحد منهما وقد ارتكبا تلك الفعلة الشنيعة التي أحفظت الجماعة من التّهاون بهم والاستغناء عن رأيهم لم يؤمن أن يقتلا. كما في (النهاية لابن الأثير) وغيرها. وفي بعض النسخ : (يبايع) بدل (يتابع).

(٤) أخرجه البخاري بشرح السندي ٢ / ٢٩٠ ، ٢٩١ ولكن من غير طريق الزهري ، وأحمد في المسند ١ / ٥٥ ، ٥٦ وكذلك ابن هشام في السيرة ٤ / ٢٦١ ، ٢٦٢ ، برواية ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكير ، عن ابن شهاب الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عبد الله بن عباس ، عن عبد الرحمن بن عوف ، ورواه الطبري في تاريخه ٣ / ٢٠٥ ، ٢٠٦ عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، والبلاذري في أنساب الأشراف ١ / ٥٨٣ و ٥٨٤ ، واليعقوبي في تاريخه ٢ / ١٢٣ ، والمطهّر المقدسي في البدء والتاريخ ٥ / ٦٤ ـ ٦٦ ، والنويري في نهاية الأرب ١٩ / ٢٩ ـ ٣٣ ، وابن كثير في البداية والنهاية ٥ / ٢٤٥ ، ٢٤٦ ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء ٦٧ ، ٦٨ ، وابن شاكر الكتبي في عيون التواريخ ١ / ٤٨٥ ـ ٤٨٧ ، ومناقب عمر لابن الجوزي ٥١ ، ٥٢.

٨

وقال عاصم بن بهدلة (١) ، عن زرّ (٢) ، عن عبد الله قال : لمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير. فأتاهم عمر فقال : يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أن أبا بكر قد أمره النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يؤمّ النّاس؟ قالوا : بلى ، قال : فأيّكم تطيب نفسه أن يتقدّم أبا بكر؟ قلت : يعني في الصّلاة ـ فقالت الأنصار : نعوذ بالله أن نتقدّم أبا بكر. رواه النّاس (٣) عن زائدة عنه (٤).

وقال يزيد بن هارون : أنا العوّام بن حوشب ، عن إبراهيم التّيميّ قال : لمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى عمر أبا عبيدة فقال : أبسط يدك لأبايعك ، فإنّك أمين هذه الأمّة على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو عبيدة لعمر : ما رأيت لك فهّة (٥) قبلها منذ أسلمت ، أتبايعني وفيكم الصّدّيق وثاني اثنين (٦)؟.

وروى نحوه عن مسلم البطين عن أبي البختري.

وقال ابن عون ، عن ابن سيرين ، قال أبو بكر لعمر : ابسط يدك نبايع لك ، فقال عمر (٧) : أنت أفضل منّي ، فقال أبو بكر : أنت أقوى منّي ، قال : إنّ قوّتي لك مع فضلك (٨).

وقال يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن القاسم ، أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا توفّي اجتمعت الأنصار إلى سعد ، فأتاهم أبو بكر وجماعة ، فقام الحباب بن

__________________

(١) في نسخة (ح) بالنون «نهدلة» وهو تصحيف.

(٢) هو : زرّ بن حبيش.

(٣) في نسخة دار الكتب «الياس» وهو تصحيف.

(٤) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى ٣ / ١٧٨ ، ١٧٩ عن الحسين بن عليّ الجعفيّ ، عن زائدة ، به ، والحاكم في المستدرك ٣ / ٦٧ ، وتابعه الذهبي في التلخيص ، ومناقب عمر لابن الجوزي ٥٠.

(٥) الفهّة : السّقطة والجهلة. وفي حاشية الأصل : الفهة مخفّفة : ضعف الرأي.

(٦) رواه ابن سعد في الطبقات ٣ / ١٨١.

(٧) في نسخة (ح) : «فقال له عمر».

(٨) في تاريخ الطبري ٣ / ٢٠٣ «إن لك قوّتي مع قوّتك».

٩

المنذر ، وكان بدريا فقال : منا أمير ومنكم أمير (١).

وقال وهيب : ثنا داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة (٢) ، عن أبي سعيد قال : لمّا توفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام خطباء الأنصار ، فجعل منهم من يقول : يا معشر المهاجرين إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا استعمل رجلا منكم قرن معه رجلا منّا ، فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان منّا ومنكم ، قال : وتتابعت (٣) خطباء الأنصار على ذلك ، فقام زيد بن ثابت فقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان من المهاجرين ، وإنّما يكون الإمام من المهاجرين ، ونحن أنصاره ، كما كنّا أنصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقام أبو بكر فقال : جزاكم الله خيرا من حيّ يا معشر الأنصار وثبّت قائلكم ، أم (٤) والله لو فعلتم غير ذلك لما صالحناكم ، ثم أخذ زيد بيد أبي بكر فقال : هذا صاحبكم فبايعوه ، قال : فلمّا قعد أبو بكر على المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير عليّا ، فسأل عنه ، فقام ناس من الأنصار فأتوا به. فقال أبو بكر : ابن عمّ رسول الله وختنه أردت أن تشقّ عصا المسلمين! فقال : لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبايعه (٥) ، ثم لم ير الزّبير ، فسأل عنه حتّى جاءوا به ، فقال : ابن عمّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحواريّه أردت أن تشقّ عصا المسلمين! فقال : لا تثريب يا خليفة رسول الله ، فبايعه.

روى منه أحمد في «مسندة» (٦) إلى قوله (لمّا صالحناكم) عن

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٣ / ١٨٢.

(٢) في نسخة (ح) : «نصرة» وهو تصحيف.

(٣) في نسخة (ح) : «وتبايعت» وهو تصحيف.

(٤) بفتح الميم بدون ألف ، كما في الأصل وبقيّة النسخ ، وفي المنتقى لابن الملّا «أما» ، وكلاهما صحيح.

(٥) وهذا من الأدلّة على أنّ بيعته لم تتأخّر ، أو يقال بأنّ هذه هي البيعة الأولى ، على ما قاله الحافظ ، ابن كثير في (البداية والنهاية ٥ / ٣٠١).

(٦) البداية والنهاية ج ٥ / ١٨٥ ، ١٨٦.

١٠

عفّان (١) عن وهيب (٢) ، ورواه بتمامه ثقة ، عن عفّان (٣).

وقال الزّهريّ عن عبيد الله ، عن ابن عبّاس ، قال عمر في خطبته : وإنّ عليا والزّبير ومن معهما تخلفوا عنّا ، وتخلّفت الأنصار عنّا بأسرها ، فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر ، فبينما نحن في منزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رجل ينادي من وراء الجدار : أخرج يا بن الخطّاب ، فخرجت فقال : إنّ الأنصار قد اجتمعوا فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمرا يكون بيننا وبينهم فيه حرب ، وقال في الحديث : وتابعه المهاجرون والأنصار فنزونا على سعد بن عبادة ، فقال قائل : قتلتم سعدا ، قال عمر : فقلت وأنا مغضب : قتل الله سعدا فإنّه صاحب فتنة وشرّ (٤).

وهذا من حديث جويرية بن أسماء ، عن مالك. وروى مثله الزّبير بن بكّار ، عن ابن عيينة ، عن الزّهري.

وقال أبو بكر الهذليّ (٥) عن الحسن ، عن قيس بن عباد ، وابن

__________________

(١) هو عفّان بن مسلم الصّفّار البصريّ ، الثّقة الثّبت ، من رواة الإمام البخاري في الصحيح ، كما في (تهذيب التهذيب ٧ / ٢٣٠ رقم ٤٢٣) وغيره.

(٢) هو وهيب بن خالد بن عجلان ، الثقة الثّبت ، روى له الإمام البخاريّ في صحيحه ، على ما في (التهذيب لابن حجر ١١ / ١٦٩ رقم ٢٩٩).

(٣) رواه الحاكم في المستدرك ٣ / ٧٦ عن أبي العباس محمد بن يعقوب ، عن جعفر بن محمد بن شاكر ، عن عفان بن مسلم .. به ، وتابعه الذهبي في تلخيصه.

(٤) قال الأستاذ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في كتابه (نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم ص ٣٠) : وأمّا تخلّف سعد بن عبادة رضي‌الله‌عنه عن بيعة أبي بكر فهو الصحابيّ الوحيد الّذي لم يبايع لأبي بكر ، فلا بدّ من تأوّل فعله بما يليق بصحابيّ جليل : لعلّه لمّا رأى الأنصار قد أعدّته للخلافة يوم السقيفة ، ثم رأى إجماع الصحابة على أبي بكر وانصرافهم عن بيعة سعد استوحش نفسه بين النّاس ، وكان سعد رجلا عزيز النّفس ، فخرج من المدينة ولم يرجع إليها حتّى مات ... ولم ينقل عنه طعن في بيعة الصّدّيق ولا نواء بخروج ، فتخلّفه عن البيعة لا يقتضي رفضه لها ولا مخالفته فيها.

(٥) في طبعة القدسي ٣ / ٧ «الهزلي» بالزاي ، وهو تصحيف.

١١

الكواء ، أنّ عليّا رضي‌الله‌عنه ذكر مسيره وبيعة المهاجرين أبا بكر فقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يمت فجأة ، مرض ليالي ، يأتيه بلال فيؤذنه بالصّلاة فيقول : «مروا أبا بكر بالصّلاة» ، فأرادت امرأة من نسائه أن تصرفه إلى غيره فغضب وقال : إنّكنّ صواحب يوسف ، فلمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اخترنا واختار المهاجرون والمسلمون لدنياهم من اختاره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لدينهم ، وكانت الصّلاة عظم الأمر وقوام الدّين (١).

وقال الوليد بن مسلم : فحدّثني محمد بن حرب ، نا الزّبيديّ ، حدّثني الزّهريّ ، عن أنس أنّه سمع خطبة عمر الآخرة قال : حين جلس أبو بكر على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غدا من متوفّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتشهّد عمر ، ثمّ قال : أمّا بعد ، فإنّي قلت لكم أمس مقالة ، وإنّها لم تكن كما قلت ، وما وجدت المقالة (٢) التي قلت لكم في كتاب الله ولا في عهد عهده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن رجوت أنّه يعيش حتّى يدبرنا ـ يقول حتّى يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخرنا ـ فاختار الله لرسوله ما عنده على الّذي عندكم ، فإن يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد مات ، فإنّ الله قد جعل بين أظهركم كتابه الّذي هدى به محمّدا ، فاعتصموا به تهتدوا بما هدي به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ذكر أبا بكر صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وثاني اثنين وأنه أحقّ النّاس بأمرهم ، فقوموا فبايعوه ، وكان طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة ، وكانت البيعة على المنبر بيعة العامّة. صحيح غريب (٣).

وقال موسى بن عقبة ، عن سعد بن إبراهيم ، حدّثني أبي أنّ أباه عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر ، وأنّ محمد بن مسلمة كسر سيف

__________________

(١) انظر طبقات ابن سعد ٣ / ١٨٣.

(٢) في نسخة (ح) «في المقالة» ، وهو وهم.

(٣) انظر طبقات ابن سعد ٢ / ٢٧١ ، والبداية والنهاية لابن كثير ٦ / ٣٠١ ، وسيرة ابن هشام ٢٦٢ ، ونهاية الأرب للنويري ١٩ / ٤٢.

١٢

الزّبير ، ثم خطب أبو بكر واعتذر إلى النّاس وقال : والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة ولا سألتها الله في سرّ ولا علانية ، فقبل المهاجرون مقالته. وقال عليّ والزّبير : ما غضبنا (١) إلّا لأنّا أخّرنا عن المشاورة ، وإنّا نرى أبا بكر أحق النّاس بها بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنّه لصاحب الغار ، وإنّا لنعرف شرفه وخيره ، ولقد أمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصّلاة بالنّاس وهو حيّ (٢).

وقد قيل إنّ عليّا رضي‌الله‌عنه تمادى عن المبايعة مدّة : فقال يونس ابن بكير ، عن ابن إسحاق ، حدّثني صالح بن كيسان ، عن عروة ، عن عائشة قالت : لمّا توفّيت فاطمة بعد أبيها بستّة أشهر اجتمع الى عليّ أهل بيته ، فبعثوا إلى أبي بكر : ائتنا ، فقال عمر : لا والله لا تأتيهم ، فقال أبو بكر : والله لآتينّهم ، وما تخاف عليّ منهم! فجاءهم حتّى دخل عليهم فحمد الله ثمّ قال : إنّي قد عرفت رأيكم ، قد وجدتم عليّ في أنفسكم من هذه الصّدقات التي ولّيت عليكم ، وو الله ما صنعت ذلك إلّا أنّي لم أكن أريد أن أكل شيئا من أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كنت أرى أثره فيه وعمله إلى غيري حتى أسلك به سبيله وأنفذه فيما جعله الله ، وو الله لأن أصلكم أحبّ إليّ من أن أصل أهل قرابتي لقرابتكم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولعظيم حقّه. ثم تشهّد عليّ وقال : يا أبا بكر والله ما نفسنا عليك خيرا جعله الله لك أن لا تكون أهلا لما أسند إليك ، ولكنّا كنّا من الأمر حيث قد علمت فتفوت به علينا ، فوجدنا في أنفسنا ، وقد رأيت أن أبايع وأدخل فيما دخل فيه النّاس ، وإذا كانت العشيّة (٣) فصلّ بالنّاس الظّهر ، واجلس على المنبر حتّى آتيك فأبايعك ، فلمّا صلّى أبو بكر الظّهر ركب المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر الّذي كان من

__________________

(١) في بعض النسخ (عصينا) وهو تصحيف.

(٢) البداية والنهاية ٦ / ٣٠٢.

(٣) ما بعد الزوال إلى المغرب عشيّ ، وقيل العشيّ من زوال الشمس إلى الصباح ، على ما في (النهاية لابن الأثير).

١٣

أمر عليّ ، وما دخل فيه من أمر الجماعة والبيعة ، وها هو ذا فاسمعوا منه ، فقام عليّ فحمد الله وأثنى عليه ، ثم ذكر أبا بكر وفضله وسنّه ، وأنّه أهل لما ساق الله إليه من الخير ، ثم قام إلى أبي بكر فبايعه. أخرجه البخاري (١) من حديث عقيل عن الزّهريّ ، عن عروة ، عن عائشة ، وفيه : «وكان لعليّ من النّاس وجه ، حياة فاطمة ، فلمّا توفّيت استنكر عليّ وجوه النّاس ، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته. (٢).

قصّة الأسود العنسيّ (٣).

قال سيف بن عمر التّميمي : ثنا المستنير بن يزيد النّخعي ، عن عروة ابن غزيّة ، عن الضّحّاك بن فيروز الدّيلميّ ، عن أبيه قال : أوّل ردّة كانت في

__________________

(١) في المغازي ٥ / ٨٢ ، ٨٣ باب غزوة خيبر ، ومسلم في الجهاد والسير (١٧٥٩) باب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا نورث ما تركنا فهو صدقة.

(٢) قال الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية ٥ / ٢٨٦) فهذه البيعة التي وقعت من عليّ لأبي بكر ، بعد وفاة فاطمة ، بيعة مؤكّدة للصلح الّذي وقع بينهما ، وهي ثانية للبيعة التي ذكرناها أوّلا يوم السّقيفة ، كما رواه ابن خزيمة ، وصحّحه مسلم ، ولم يكن عليّ مجانبا لأبي بكر هذه الستّة الأشهر ، بل كان يصلّي وراءه ، ويحضر عنده للمشورة ، وركب معه إلى ذي القصّة. وانظر : نهاية الأرب للنويري ١٩ / ٣٩ حيث يقول : وروى أبو عمر بن عبد البرّ بسنده : عن زيد بن أسلم ، عن أبيه : أنّ عليّا والزبير كانا حين بويع لأبي بكر يدخلان على فاطمة فيشاورانها في أمرهم ، فبلغ ذلك عمر ، فدخل عليها فقال : يا بنت رسول الله ، ما كان من الخلق أحد أحبّ إلينا من أبيك ، وما أحد أحبّ إلينا بعده منك ، وقد بلغني أن هؤلاء النفر يدخلون عليك ، ولئن بلغني لأفعلنّ ولأفعلنّ ، ثم خرج وجاءوها ، فقالت لهم : إنّ عمر قد جاءني وحلف إن عدتم ليفعلنّ ، وايم الله ليفينّ بها ، فانظروا في أمركم ، ولا تنظروا إليّ ، فانصرفوا ولم يرجعوا حتى بايعوا لأبي بكر. رضي‌الله‌عنهم أجمعين.

وهذا الحديث يردّ قول من زعم أنّ عليّ بن أبي طالب لم يبايع إلّا بعد وفاة فاطمة رضي‌الله‌عنها.

(٣) بفتح العين وسكون النون ، نسبة إلى عنس بن مالك بن أدد. انظر عنه : فتوح البلدان للبلاذريّ ١ / ١٢٥ ـ ١٢٧ ، وتاريخ الطبري ٣ / ١٨٥ ، وتاريخ خليفة ١١٦ ، ١١٧ ، وثمار القلوب للثعالبي ١٤٨ ، والمعرفة والتاريخ للفسوي ٣ / ٢٦٢ ، والبدء والتاريخ لمطهّر المقدسي

١٤

الإسلام على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على يد عبهلة (١) بن كعب ، وهو الأسود في عامّة مذحج : خرج بعد حجّة الوداع ، وكان شعباذا (٢) يريهم الأعاجيب ، ويسبي قلوب من يستمع (٣) منطقه ، فوثب هو ومذحج بنجران إلى أن صار إلى صنعاء فأخذها ، ولحق بفروة (٤) من تمّ على إسلامه ، لم يكاتب الأسود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنّه لم يكن معه أحد يشاغبه ، وصفا له ملك اليمن.

فروى سيف ، عن سهل بن يوسف ، عن أبيه ، عن عبيد بن صخر قال : بينما نحن بالجند (٥) قد أقمناهم على ما ينبغي ، وكتبنا بيننا (٦) وبينهم الكتب ، إذ جاءنا كتاب من الأسود أن أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا ، ووفّروا ما جمعتم فنحن أولى به ، وأنتم على ما أنتم عليه ، فبينا نحن ننظر في أمرنا إذ قيل هذا الأسود بشعوب (٧) ، وقد خرج إليه شهر بن باذام ، ثم

__________________

= / ١٥٣ ، وجمهرة أنساب العرب لابن حزم ٤٠٥ ، والمعارف لابن قتيبة ١٠٥ و ١٧٠ ، والكامل في التاريخ لابن الأثير ٢ / ٣٣٦ ، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي ق ١ ج ٢ / ٥٢ ، ووفيات الأعيان لابن خلكان ٣ / ٦٦ ، ٦٧ في ترجمة أبي بكر الصدّيق رضي‌الله‌عنه ، و ٦ / ٣٦ في ترجمة وهب بن منبه ، ونهاية الأرب للنويري ١٩ / ٤٩ ـ ٦٠ ، والبداية والنهاية لابن كثير ٦ / ٣٠٧ ـ ٣١١ ، والإصابة لابن حجر ١ / ٤٦٧.

(١) هكذا في الأصول ، وتاريخ الطبري ٣ / ١٨٥ ، ونهاية الأرب ١٩ / ٤٩ ، والبداية والنهاية لابن كثير ٦ / ٣٠٧ ، وجمهرة أنساب العرب لابن حزم ٤٠٥ ، وقد قيّده الدكتور صلاح الدين المنجّد في تحقيقه لفتوح البلدان للبلاذري ١ / ١٢٥ «عيهلة» بالياء المثنّاة بدل الباء الموحّدة ، وكذلك محقّق الكامل في التاريخ لابن الأثير ٢ / ٣٣٦.

(٢) شعباذا : بكسر الشين ، مشعبذا ، والشعبذة والشعوذة : أخذ كالسحر يري الشيء بغير ما عليه أصله في رأي العين.

(٣) في نسخة (ح) «سمع».

(٤) هو : فروة بن مسيك ، وهو على مراد. (تاريخ الطبري ٣ / ١٨٥).

(٥) الجند : بفتح الجيم والنون. بلد في اليمن بين تعز وعدن ، وهو أحد مخاليفها المشهورة نزلها معاذ بن جبل رضي‌الله‌عنه. (تاج العروس ٧ / ٢٤) وانظر معجم ما استعجم ٢ / ٣٩٧.

(٦) كلمة «بيننا» ساقطة من نسخة (ح).

(٧) في نسخة دار الكتب «يشعوذ» ، وهو تصحيف ، والصحيح ما أثبتناه ، فهو اسم مكان أو قصر باليمن. (تاج العروس ٣ / ١٤١).

١٥

أتانا الخبر أنّه قتل شهرا وهزم الأبناء ، وغلب على صنعاء بعد نيّف وعشرين ليلة ، وخرج معاذ هاربا حتى مرّ بأبي موسى الأشعري بمأرب ، فاقتحما حضر موت.

وغلب الأسود على ما بين أعمال الطّائف إلى البحرين وغير ذلك ، وجعل يستطير (١) استطارة الحريق ، وكان معه سبعمائة فارس يوم لقي شهرا ، وكان قوّاده : قيس بن عبد يغوث ، ويزيد بن مخزوم ، وفلان ، وفلان ، واستغلظ أمره وغلب على أكثر اليمن ، وارتدّ معه خلق ، وعامله المسلمون بالتقية ، وكان خليفته في مذحج عمرو بن معديكرب ، وأسند (٢) أمر جنده إلى قيس بن عبد يغوث ، وأمر الأبناء (٣) إلى فيروز الدّيلميّ ، وداذويه (٤) ، فلمّا أثخن في الأرض استخفّ بهؤلاء ، وتزوّج امرأة شهر ، وهي بنت عمّ فيروز ، قال : فبينا نحن كذلك بحضر موت ولا نأمن أن يسير إلينا الأسود ، وقد تزوّج معاذ في السّكون (٥) ، إذ جاءتنا كتب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرنا فيها أن نبعث الرجال لمجاولته ومصاولته ، فقام معاذ في ذلك ، فعرفنا القوّة ووثقنا بالنصر.

وقال سيف : فحدّثنا المستنير ، عن عروة ، عن الضّحّاك بن فيروز ، عن جشنس (٦) ابن الدّيلميّ قال : قدم علينا وبر بن يحنّس بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) في نسخة دار الكتب «وجعل أمره يستطير» ، وهو مغاير لما في الأصل وتاريخ الطبري ٣ / ٢٣٠ و (ع) والمنتقى لابن الملّا.

(٢) في نسخة دار الكتب (وأسلم).

(٣) أي أبناء أهل فارس في اليمن. (فتوح البلدان ٣ / ١٢٥ ، ١٢٦).

(٤) في الأصل وفي (ع) والمنتقى لابن الملّا (ذادويه) ، والتحقيق من تاريخ خليفة بن خياط ـ ص ١١٧ وتاريخ الطبري ٣ / ٢٣٠ ، وفتوح البلدان للبلاذري ١ / ١٢٦ والمعرفة والتاريخ للفسوي ٣ / ٢٦٢.

(٥) السّكون : بطن من كندة. وهو السكن بن أشرس بن ثور. (اللباب ٢ / ١٢٥).

(٦) في الأصل «جشنسن» ، وفي نسخة (ع) و (ح) «خشنس» وعند الطبري ٣ / ٢٣١ : «جشيش» و «جشنس» ، وعند ابن ماكولا في الإكمال ٣ / ١٥٢ «جشيش» وقال : في نسب الفرس : جشنس جماعة. (٣ / ١٥٦) ، وورد في المشتبه للذهبي ١ / ٢٦٥ «جشيش».

١٦

فأمرنا فيه بالنّهوض في أمر الأسود فرأينا أمرا كثيفا ، ورأينا الأسود قد تغيّر لقيس بن عبد يغوث ، فأخبرنا قيسا وأبلغناه عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكأنّما وقعنا عليه من السماء (١) فأجابنا ، وجاء وبر وكاتبنا النّاس ودعوناهم ، فأخبر الأسود شيطانه فأرسل إلى قيس فقال : ما يقول الملك؟ يقول : عمدت إلى قيس فأكرمته ، حتّى إذا دخل منك كلّ مدخل مال ميل عدوّك ، فحلف له وتنصّل ، فقال : أتكذّب الملك؟ قد صدق وعرفت أنّك تائب ، قال : فأتانا قيس وأخبرنا فقلنا : كمن (٢) على حذر ، وأرسل إلينا الأسود : ألم أشرّفكم على قومكم ، ألم يبلغني عنكم؟ فقلنا : أقلنا مرّتنا هذه ، فقال : فلا يبلغني عنكم فأقتلكم ، فنجونا ولم نكد ، وهو في ارتياب (٣) من أمرنا ، قال : فكاتبنا عامر بن شهر ، وذو الكلاع ، وذو ظليم ، فأمرناهم أن لا يتحرّكوا بشيء ، قال : فدخلت على امرأته آذاد (٤) فقلت : يا بنت عمّ قد عرفت بلاء هذا الرجل ، وقتل زوجك وقومك وفضح النّساء ، فهل من ممالأة عليه؟ قالت : ما خلق الله أبغض إليّ منه ، ما يقوم على حقّ ولا ينتهي عن حرمة ، فخرجت فإذا فيروز وداذويه ينتظراني (٥) ، وجاء قيس ونحن نريد أن نناهضه ، فقال له رجل قبل أن يجلس : الملك يدعوك ، فدخل في عشرة فلم يقدر على قتله ، وقال يا عبهلة أمنّي (٦) تتحصّن بالرجال ، ألم أخبرك الحقّ وتخبرني الكذب ، تريد قتلي! فقال : كيف وأنت رسول الله فمرني بما أحببت ، فأمّا الخوف والفزع فأنا فيهما فاقتلني وارحمني ، فرقّ له وأخرجه ، فخرج علينا وقال :

__________________

(١) «من السماء» ساقطة من الأصل ، ومن نسخة (ع) ، والمنتقى لابن الملّا ، والاستدراك من تاريخ الطبري ٣ / ٢٣١ ، ونهاية الأرب للنويري ١٩ / ٥٣.

(٢) عند الطبري ٣ / ٢٣٢ «نحن» بدل «كمن».

(٣) في الأصل (في ارتياد) ، والتصحيح من المنتقى لابن الملّا ، وتاريخ الطبري (٣ / ٢٣٢).

(٤) في طبعة القدسي ٣ / ١٢ «آزادي» بالزاي ، والتصويب من تاريخ الطبري.

(٥) في طبعة القدسي ٣ / ١٢ «ينتظر أبي» وهو وهم ، والتصويب من تاريخ الطبري.

(٦) في طبعة القدسي ٣ / ١٢ «أنا عبهلة أمتي» وهو وهم ، والتصويب من تاريخ الطبري ٣ / ٢٣٣.

١٧

اعملوا عملكم ، وخرج علينا الأسود في جمع ، فقمنا له ، وبالباب مائة بقرة وبعير فنحرها (١) ، ثم قال : أحقّ ما بلغني عنك يا فيروز؟ لقد هممت بقتلك ، فقال : اخترتنا لصهرك وفضّلتنا على الأبناء ، وقد جمع لنا (٢) أمر آخرة ودنيا ، فلا تقبلن (٣) علينا أمثال ما يبلغك. فقال : اقسم هذه ، فجعلت آمر للرهط بالجزور (٤) ، ثم اجتمع بالمرأة فقالت : هو متحرّز ، والحرس محيطون بالقصر سوى هذا الباب فانقبوا عليه ، وهيّأت لنا سراجا ، وخرجت ، فتلقّاني الأسود خارجا من القصر فقال : ما أدخلك؟ ووجأ رأسي فسقطت ، فصاحت المرأة وقالت : ابن عمّي زارني ، فقال : اسكتي لا أبا لك فقد وهبته لك ، فأتيت أصحابي وقلت : النّجاء ، وأخبرتهم الخبر ، فأنا على ذلك إذ جاءني رسولها : لا تدعن ما فارقتك عليه. فقلنا لفيروز : ائتها وأتقن أمرنا ، وجئنا بالليل ودخلنا ، فإذا سراج تحت جفنة ، فاتّقيا بفيروز ، وكان أنجدنا ، فلمّا دنا من البيت سمع غطيطا شديدا ، وإذا المرأة جالسة. فلمّا قام فيروز على الباب أجلس الأسود شيطانه وكلّمه فقال أيضا : فما لي ولك يا فيروز ، فخشي إن رجع أن يهلك هو والمرأة ، فعاجله وخالطه وهو مثل الجمل ، فأخذ برأسه فدقّ عنقه وقتله ، ثم قام ليخرج فأخذت المرأة بثوبه تناشده ، فقال : أخبر أصحابي بقتله ، فأتانا فقمنا معه ، فأردنا حزّ رأسه فحرّكه (٥) الشيطان واضطرب ، فلم يضبطه فقال : اجلسوا على صدره ، فجلس اثنان وأخذت المرأة بشعره ، وسمعنا بربرة (٦) فألجمته بملاءة (٧) ،

__________________

(١) في نسخة (ح) «فنحرناها».

(٢) في تاريخ الطبري «اجتمع لنابك».

(٣) في طبعة القدسي ٣ / ١٢ «نقبلن» بالنون في أولها ، والتصحيح من تاريخ الطبري.

(٤) زاد في تاريخ الطبري ٣ / ٢٣٣ : «ولأهل البيت بالبقرة».

(٥) في ح (فحرله) وهو تصحيف.

(٦) أي صياحا.

(٧) هكذا في الأصل ، وعند الطبري ٣ / ٢٣٥ «مئلاة». وهي الخرقة التي تمسكها المرأة عند النوح تشير بها.

١٨

وأمرّ الشّفرة على حلقه ، فخار كأشدّ خوار ثور ، فابتدر الحرس الباب : ما هذا ما هذا؟ قالت : النّبيّ يوحى إليه ، قال : وسمرنا ليلتنا كيف نخبر أشياعنا ، فأجمعنا على النّداء بشعارنا ثم بالأذان ، فلما طلع الفجر نادى داذويه بالشعار ، ففزع المسلمون والكافرون ، واجتمع الحرس فأحاطوا بنا ، ثم ناديت بالأذان ، وتوافت خيولهم إلى الحرس ، فناديتهم : أشهد أنّ محمّدا رسول الله ، وأنّ عبهلة كذّاب ، وألقينا إليهم الرأس ، وأقام وبر الصّلاة ، وشنّها القوم غارة ، ونادينا : يا أهل صنعاء من دخل عليه داخل فتعلّقوا به ، فكثر النّهب والسّبي ، وخلصت صنعاء والجند ، وأعزّ الله الإسلام ، وتنافسنا الإمارة ، وتراجع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاصطلحنا على معاذ بن جبل ، فكان يصلّي بنا ، وكتبنا إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخبر فقدمت رسلنا ، وقد قبض النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صبيحتئذ فأجابنا أبو بكر عنه.

وروى الواقديّ عن رجاله قال : بعث أبو بكر قيس بن مكشوح (١) إلى اليمن ، فقتل الأسود العنسيّ ، هو وفيروز الدّيلميّ. ولقيس هذا أخبار ، وقد ارتدّ ، ثم أسره المسلمون فعفا عنه أبو بكر ، وقتل مع عليّ بصفّين.

جيش أسامة بن زيد

قال هشام بن عروة ، عن أبيه قال : جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في مرضه : «أنفذوا جيش أسامة ، فسار حتى بلغ الجرف ، فأرسلت إليه امرأته فاطمة بنت قيس تقول : لا تعجل فإنّ رسول الله ثقيل (٢) ، فلمّا يبرح حتى قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلمّا قبض رجع إلى أبي بكر فقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثني وأنا على غير حالكم هذه ، وأنا اتخوّف أن تكفر العرب ، وإن كفرت كانوا أوّل من يقاتل ، وإن لم تكفر مضيت ، فإنّ معي سروات النّاس

__________________

(١) هو قيس بن هبيرة المكشوح المرادي. سمّي بالمكشوح لأنه كوي على كشحة من داء كان به.

(فتوح البلدان ١ / ١٢٦).

(٢) هكذا في الأصل ، ونسخة (ح) ، وطبقات ابن سعد ٤ / ٦٧ ، وفي نسخة دار الكتب «يعتل».

١٩

وخيارهم ، قال : فخطب أبو بكر النّاس ، ثم قال : والله لأن تخطفني الطّير أحبّ اليّ من أن أبدأ بشيء قبل أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فبعثه أبو بكر ، واستأذن لعمر أن يتركه عنده ، وأمر أن لا (١) يجزر في القوم ، أن يقطع الأيدي ، والأرجل والأوساط في القتال ، قال : فمضى حتى أغار ، ثم رجعوا وقد غنموا وسلموا.

فكان عمر يقول : ما كنت لأحيّي (٢) أحدا بالإمارة غير أسامة ، لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبض وهو أمير ، قال : فسار ، فلمّا دنوا من الشّام أصابتهم ضبابة شديدة فسترتهم ، حتى أغاروا وأصابوا حاجتهم ، قال : فقدم بنعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هرقل وإغارة أسامة في ناحية أرضه خبرا واحدا ، فقالت الروم : ما بال هؤلاء يموت صاحبها ثمّ أغاروا على أرضنا (٣).

وعن الزهري قال : سار أسامة في ربيع الأول حتى بلغ أرض الشام وانصرف ، فكان مسيره ذاهبا وقافلا أربعين يوما (٤).

وقيل كان ابن عشرين سنة (٥).

وقال ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة قال : فلمّا فرغوا من البيعة ، واطمأنّ النّاس قال أبو بكر لأسامة بن زيد : امض لوجهك. فكلّمه رجال من المهاجرين والأنصار وقالوا : أمسك أسامة وبعثه فإنّا نخشى أن تميل علينا العرب إذا سمعوا بوفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : أنا أحبس جيشا بعثهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم! لقد اجترأت على أمر عظيم ، والّذي نفسي بيده لأن تميل عليّ العرب أحبّ إليّ من أن أحبس جيشا بعثهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، امض يا

__________________

(١) «لا» في الأصل وغيره ، وساقطة من نسخة (ح) ، وليست في طبقات ابن سعد ٤٠ / ٦٧.

(٢) في طبقات ابن سعد «لأجيء» وهو تصحيف.

(٣) طبقات ابن سعد ٤ / ٦٧ ، ٦٨ وفيه : «ما بالي هؤلاء بموت صاحبهم أن أغاروا على أرضنا» ، وانظر تهذيب تاريخ دمشق ٢ / ٣٩٧ ، وسير أعلام النبلاء ٢ / ٥٠٣ ، وتاريخ خليفة ـ ص ١٠٠.

(٤) تاريخ خليفة بن خيّاط ١٠١ ، وتاريخ الطبري ٣ / ٢٢٧.

(٥) وقيل : ابن ثماني عشرة سنة. (طبقات ابن سعد ٤ / ٦٦).

٢٠