تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام - ج ٣١

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

١

٢

٣

٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الطبقة السابعة والأربعون

سنة إحدى وستين وأربعمائة

[حريق جامع دمشق]

في نصف شعبان حريق جامع دمشق.

قال ابن الأثير (١) : كان سبب احتراقه حرب وقع بين المغاربة والمشارقة ، يعني الدولة ، فضربوا دارا مجاورة للجامع بالنّار فاحترقت ، واتّصل الحريق إلى الجامع. وكانت العامّة تعين المغاربة ، فتركوا القتال واشتغلوا بإطفاء النّار ، فعظم الأمر ، واشتدّ الخطب ، وأتى الحريق على الجامع ، فدثرت محاسنه ، وزال ما كان فيه من الأعمال النّفيسة ، وتشوّه منظره ، واحترقت سقوفه المذهّبة (٢).

[تغلّب حصن الدولة على دمشق]

وفيها وصل حصن الدّولة معلّى بن حيدرة (٣) الكتاميّ إلى دمشق ، وغلب عليها قهرا من غير تقليد ، بل بحيل نمّقها واختلقها. وذكر أنّ التّقليد بعد ذلك وافاه ، فصادر أهلها وبالغ ، وعاث ، وزاد في الجور إلى أن خربت أعمال دمشق ،

__________________

(١) في : الكامل في التاريخ ١٠ / ٥٩.

(٢) تاريخ دمشق (مخطوطة التيمورية) ١٢ / ١٢ ، تاريخ مختصر الدول ١٨٥ ، ذيل تاريخ دمشق ٩٦ ، تاريخ دولة آل سلجوق ٣٧ ، مختصر تاريخ دمشق لابن منظور ١٥ / ٢٥٩ (رقم ٢٤٨) ، المختصر في أخبار البشر ٢ / ١٨٦ ، نهاية الأرب ٢٣ / ٢٣٨ ، العبر ٣ / ٢٤٧ ، دول الإسلام ١ / ٢٧٠ ، تاريخ ابن الوردي ١ / ٣٧٣ ، اتعاظ الحنفا ٢ / ٣٠٠ ، ٣٠١ ، مرآة الزمان (في حاشية ذيل تاريخ دمشق ٩٧ ، ٩٨) ، تاريخ الخلفاء ٤٢١ ، شذرات الذهب ٣ / ٣٠٨ ، ٣٠٩ ، أخبار الدول (الطبعة الجديدة) ٢ / ١٦٣ ، تهذيب تاريخ دمشق ٥ / ٢٤.

وجاء في : تاريخ الفارقيّ ١٩٢ أن الحريق كان في سنة ٤٦٣ ه‍ ، وفي الدرّة المضيّة سنة ٤٦٢ ه‍.

(٣) أمراء دمشق في الإسلام ٨٥ رقم ٢٥٨.

٥

وجلا أهلها عنها ، وتركوا أملاكهم وأوطانهم ، إلى أن أوقع الله بين العسكريّة الشّحناء والبغضاء ، فخاف على نفسه ، فهرب إلى جهة بانياس سنة سبع وستّين ، فأقام بها وعمر الحمّام وغيره بها. وأقام إلى سنة اثنتين وسبعين بها ، فنزح منها إلى صور خوفا من عسكر المصريّين.

ثمّ سار من صور إلى طرابلس ، فأقام عند زوج أخته جلال الملك بن عمّار مدّة. ثمّ أخذ منها إلى مصر ، وأهلك سنة ٤٨١ ، ولله الحمد (١).

[وصول الروم إلى الثغور]

وفيها أقبلت الروم من القسطنطينية ووصلت إلى الثّغور. (٢)

__________________

(١) ذيل تاريخ دمشق ٩٥ ، ٩٦ ، تاريخ دمشق (مخطوطة التيمورية) ٤٣ / ٣٧ ، تاريخ طرابلس السياسي والحضاريّ (تأليفنا) ١ / ٣٦٩ (الطبعة الثانية).

وانظر حوادث سنة ٤٦٨ ه‍.

(٢) انظر : تاريخ حلب للعظيميّ (زعرور ٣٤٧) (سويّم ١٤ ، ١٥) ، والمنتظم ٨ / ٢٥٤ ، ٢٥٥ (١٦ / ١١٤) ، وتاريخ الزمان ١٠٨ ، وذيل تاريخ دمشق ٢٩٨ ، تاريخ ابن الوردي ١ / ٣٧٣ ، البداية والنهاية ١٢ / ٩٨.

٦

سنة اثنتين وستين وأربعمائة

[نزول ملك الروم على منبج]

أقبل صاحب القسطنطنية ـ لعنه الله ـ في عسكر كبير إلى أن نزل على منبج ، فاستباحها قتلا وأسرا ، وهرب من بين يديه عسكر قنسرين والعرب ، ورجع الملعون لشدّة الغلاء على جيشه ، حتّى أبيع فيهم رطل الخبز بدينار (١).

[محاصرة أمير الجيوش صور]

وفيها سار بدر أمير الجيوش فحاصر صور (٢) ، وكان قد تغلّب عليها القاضي عين الدّولة بن أبي عقيل ، فسار لنجدته من دمشق الأمير قرلوا في ستّة آلاف ، فحصر صيداء ، وهي لأمير الجيوش ، فترحّل بدر ، فردّ العسكر النّجدة.

ثمّ عاد بدر فحاصر صور برّا وبحرا سنة ، فلم يقدر عليها ، فرحل عنها (٣).

[إعادة الخطبة للعباسيّين بمكة]

وفيها ورد رسول أمير مكّة محمد بن أبي هاشم وولد أمير مكّة على السّلطان ألب أرسلان بأنّه أقام الخطبة العبّاسيّة ، وقطع خطبة المستنصر

__________________

(١) تاريخ حلب للعظيميّ (زعرور) ٣٤٧ (سويّم) ١٥ ، المنتظم ٨ / ٢٥٦ (١٦ / ١١٦) ، الكامل في التاريخ ١٠ / ٦٠ ، ذيل تاريخ دمشق ٩٨ ، تاريخ دولة آل سلجوق ٣٧ ، زبدة الحلب ٢ / ١٣ ، الدرّة المضيّة ٣٨٨ ، العبر ٣ / ٢٤٨ ، ٢٤٩ ، دول الإسلام ١ / ٢٧٠ ، مرآة الجنان ٣ / ٨٥ ، تاريخ ابن الوردي ١ / ٣٧٣ (حوادث ٤٦١ ه‍.) ، شذرات الذهب ٣ / ٣١٠ ، البداية والنهاية ١٢ / ٩٩.

(٢) في : أخبار مصر لابن ميسّر ٢ / ٢٠ «صفد» وهو غلط. والمثبت أعلاه هو الصحيح.

(٣) تاريخ حلب (زعرور) ٣٤٧ (سويّم ١٥) ، الكامل في التاريخ ١٠ / ٦٠ ، ذيل تاريخ دمشق ٩٨ ، اتعاظ الحنفا ٢ / ٣٠٣.

٧

المصريّ ، وترك الأذان بحيّ على خير العمل ، فأعطاه السّلطان ثلاثين ألف دينار وخلعا ، وقال : إذا فعل مهنّا أمير المدينة كذلك أعطيناه عشرين ألف دينار (١).

[القحط في مصر]

وسبب ذلك ذلّة المصريّين بالقحط المفرط ، واشتغالهم بأنفسهم حتّى أذلّ بعضهم بعضا ، وتشتّتوا في البلاد ، وكاد الخراب يستولي على سائر الإقليم ، حتّى أبيع الكلب بخمسة دنانير ، والهرّ بثلاثة دنانير. وبلغ الإردبّ مائة دينار (٢).

وردّت التّجار ومعهم ثياب صاحب مصر وآلاته نهبت وأبيعت من الجوع.

وقد كان فيها أشياء نهبت من دار الخلافة ببغداد وقت القبض على الطّائع لله ووقت فتنة البساسيريّ. وخرج من خزائنهم ثمانون ألف قطعة بلّور ، وخمسة وسبعون ألف قطعة من الدّيباج القديم ، وأحد عشر ألف كزاغند ، وعشرون ألف سيف محلّى ، هكذا نقله ابن الأثير (٣).

قال صاحب «مرآة الزّمان» (٤) ـ والعهدة عليه ـ : خرجت امرأة من القاهرة وبيدها مدّ جوهر فقالت : من يأخذه بمدّ برّ؟ فلم يلتفت إليها أحد ، فألقته في الطّريق وقالت : هذا ما نفعني وقت الحاجة ، ما أريده. فلم يلتفت أحد إليه (٥).

__________________

(١) الكامل في التاريخ ١٠ / ٦١ ، تاريخ دولة آل سلجوق ٣٨ وفيه أن أمير الحرمين محمد بن أبي هاشم الحسني هو الّذي ورد إلى بغداد بقصد الوفادة إلى السلطان ، نهاية الأرب ٢٣ / ٢٣٨ ، العبر ٣ / ٢٤٩ ، مرآة الجنان ٣ / ٨٥ ، مآثر الإنافة ١ / ٣٤٧ ، تاريخ ابن خلدون ٣ / ٤٧٠ ، اتعاظ الحنفا ٢ / ٣٠٤ ، تاريخ الخلفاء ٤٢١ ، شذرات الذهب ٣ / ٣١٠ ، البداية والنهاية ١٢ / ٩٩.

(٢) تاريخ الخلفاء ٤٢١ ، البداية والنهاية ١٢ / ٩٩ ، بدائع الزهور ج ١ ق ١ / ٢١٦ ، أخبار الدول (الطبعة الجديدة) ٢ / ١٦٢.

(٣) في : الكامل في التاريخ ١٠ / ٦١ ، ٦٢ ، واقتبسه النويري في : نهاية الأرب ٢٨ / ٢٣٣.

(٤) هو : سبط ابن الجوزي.

(٥) انظر : المنتظم ٨ / ٢٥٧ ، ٢٥٨ (١٦ ، ١١٧ ، ١١٨) ، وتاريخ الزمان ١٠٨ ، ١٠٩ ، والمختصر في أخبار البشر ٢ / ١٨٦ ، وأخبار الدول المنقطعة ٧٤ ، ٧٥ ، وأخبار مصر لابن ميسّر ٢ / ٢٠ وفيه قال مؤلّفه : «رأيت مجلّدا يجيء نحو عشرين كرّاسا فيه ذكر ما خرج من القصر من التحف والأثاث والثياب والذهب وغير ذلك» ، ونهاية الأرب ٢٨ / ٢٣٣ ، ودول الإسلام ١ / ٢٧٠ ، ٢٧١ ، تاريخ ابن الوردي ١ / ٣٧٣ ، اتعاظ الحنفا ٢ / ٢٧٩ ـ ٣٠٠ وفيه تفصيلات كثيرة عن الغلاء بمصر ، النجوم الزاهرة ٥ / ٨٤ ، شذرات الذهب ٣ / ٣١٠ ، بدائع الزهور ج ١ ق ١ / ٢١٦ ـ ٢١٨ (في حوادث سنة ٤٤٠ ه‍.) ، أخبار الدول (الطبعة الجديدة) ٢ / ١٦٢.

٨

وقال ابن الفضل (١) يهنّئ القائم بأمر الله بقصيدة ، منها :

وقد علم المصريّ أنّ جنوده (٢)

سنو (٣) يوسف فيها (٤) وطاعون عمواس

أقامت (٥) به حتّى استراب بنفسه

وأوجس منها (٦) خيفة أيّ إيجاس (٧)

 __________________

(١) في : أخبار الدول المنقطعة ٧٥ «ابن صرّبعر».

(٢) في : أخبار الدول : «بلاده».

(٣) في : أخبار الدول : «سني»

(٤) في الكامل ٨ / ١٠٨ (طبعة دار الكتاب العربيّ) : منها ، وكذا في طبعة صادر ١٠ / ٦٢.

(٥) في : أخبار الدول : «أحاطت».

(٦) في الكامل ٨ / ١٠٨ (طبعة دار الكتاب العربيّ) : منه ، وكذا في طبعة صادر ١٠ / ٦٢ ، وفي أخبار الدول «منهم».

(٧) في أخبار الدول : «أنجاس». وفيه زيادة بيت :

قصور على الفسطاط أضحت كأنها

قصور ربوع بالسماوة أرداس

٩

سنة ثلاث وستين وأربعمائة

[الخطبة في حلب للخليفة القائم]

فيها خطب محمود بن شبل الدّولة بن صالح الكلابيّ صاحب حلب بها للخليفة القائم وللسّلطان ألب أرسلان عند ما رأى من قوّة دولتهما وإدبار دولة المستنصر ، فقال للحلبيين : هذه دولة عظيمة نحن تحت الخوف منهم ، وهم يستحلّون دماءكم لأجل مذهبكم ، يعني التّشيّع. فأجابوا ولبس المؤذّنون السّواد.

فأخذت العامّة حصر الجامع وقالوا : هذه حصر الإمام عليّ ، فليأت أبو بكر بحصر يصلّي عليها النّاس. فبعث الخليفة القائم له الخلع مع طراد الزّينبيّ نقيب النّقباء (١).

[مسير ألب أرسلان إلى حلب]

ثمّ سار ألب أرسلان إلى حلب من جهة ماردين ، فخرج إلى تلقّيه من ماردين صاحبها نصر بن مروان (٢) ، وقدم له تحفا. ووصل إلى آمد فرآها ثغرا منيعا فتبرك به ، وجعل يمرّ يده على السّور ويمسح بها صدره. ثمّ حاصر الرّها فلم يظفر بها ، فترحل إلى حلب وبها طراد بالرّسالة ، فطلب منه محمود الخروج عنه إلى السّلطان ، وأن يعفيه من الخروج إليه. فخرج وعرف السّلطان بأنّه قد لبس خلع القائم وخطب له. فقال : أيش تسوى خطبتهم ويؤذّنون بحيّ على خير

__________________

(١) زبدة الحلب ٢ / ١٦ ـ ١٨ ، تاريخ حلب للعظيميّ (زعرور) ٣٤٧ ، (سويّم) ١٥ ، الكامل في التاريخ ١٠ / ٦٣ ، نهاية الأرب ٢٣ / ٢٣٨ و٢٦ / ٣١٢ ، العبر ٣ / ٢٥٠ ، مرآة الجنان ٣ / ٨٦ ، تاريخ ابن الوردي ١ / ٣٧٣ ، مآثر الإنافة ١ / ٣٤٧ ، تاريخ ابن خلدون ٣ / ٤٧٠ ، اتعاظ الحنفا ٢ / ٣٠٢ (حوادث سنة ٤٦٢ ه‍.) و٣٠٣ ، تاريخ الخلفاء ٤٢١.

(٢) هو : نصر بن أحمد بن مروان ، نظام الدين. انظر : الأعلاق الخطيرة ج ٣ ق ٢ / ٧٣٥ فهرس الأعلام. والمثبت يتفق مع : بغية الطلب (تراجم السلاجقة) ٢٩.

١٠

العمل؟ ولا بدّ أن يدوس بساطي.

فامتنع محمود فحاصرها مدّة ، فخرج محمود ليلة بأمّه ، فدخلت وخدمت وقالت : هذا ولدي فافعل به ما تحبّ.

فعفا عنه وخلع عليه ، وقدّم هو تقادم جليلة ، فترحّل عنه (١).

[موقعة منازكرد]

وفيها الوقعة العظيمة بين الإسلام والروم.

قال عزّ الدين في «كاملة» (٢) : فيها خرج أرمانوس طاغية (٣) الرّوم في مائتي ألف من الفرنج والرّوم والبجاك (٤) والكرج (٥) ، وهم في تجمّل عظيم ، فقصدوا بلاد الإسلام ، ووصل إلى منازكرد (٦) بليدة من أعمال خلاط. وكان السّلطان ألب أرسلان بخويّ (٧) من أعمال أذربيجان قد عاد من حلب ، فبلغه كثرة جموعهم وليس معه من عساكره إلّا خمس عشرة ألف فارس ، فقصدهم وقال : أنا ألتقيهم صابرا محتسبا ، فإن سلمت فبنعمة الله تعالى ، وإن كانت الشّهادة فابني ملك شاه وليّ عهدي.

فوقعت مقدّمته على مقدّمة أرمانوس فانهزموا وأسر المسلمون مقدّمهم ،

__________________

(١) تاريخ حلب (زعرور) ٣٤٨ (سويّم) ١٥ ، الكامل في التاريخ ١٠ / ٦٤ ، تاريخ الزمان ١٠٩ ، المختصر في أخبار البشر ٢ / ١٨٧ ، نهاية الأرب ٢٦ / ٣١٢ ، ٣١٣ ، بغية الطلب (تراجم السلاجقة) ١٧ و١٨ و١٩ و٢٣ ، ٢٤ ، الدرّة المضيّة ٣٩١ ، ٣٩٢ ، دول الإسلام ١ / ٢٧١ ، تاريخ ابن الوردي ١ / ٣٧٣ ، تاريخ ابن خلدون ٣ / ٤٧٠ ، اتعاظ الحنفا ٢ / ٣٠٢.

(٢) الكامل في التاريخ ١٠ / ٦٥ وما بعدها.

(٣) في الكامل ٨ / ١٠٩ (طبعة دار الكتاب العربيّ) : «ملك». وكذا في طبعة صادر ١٠ / ٦٥ ، وهو الإمبراطور رومانوس الرابع.

(٤) في الكامل ٨ / ١٠٩ (طبعة دار الكتاب العربيّ) : «البجناك» ، وكذا في طبعة صادر ١٠ / ٦٥.

(٥) قال ابن العماد الحنبلي : الكزج بالزاي والجيم. (شذرات الذهب ٣ / ٣١١).

(٦) في الكامل ٨ / ١٠٩ (طبعة دار الكتاب العربيّ) : «ملازكرد» ، وكذا في طبعة صادر ١٠ / ٦٥ ، وفي (معجم البلدان ٥ / ٢٠٢) : منازجرد : بعد الألف زاي ثم جيم مكسورة ، وراء ساكنة ، ودال. وأهله يقولون منازكرد ، بالكاف. بلد مشهور بين خلاط وبلاد الروم ، يعدّ في أرمينية وأهله أرمن الروم.

(٧) خويّ : بلفظ تصغير خوّ. بلد مشهور من أعمال أذربيجان ، حصن كثير الخير والفواكه. (معجم البلدان ٢ / ٤٠٨).

١١

فأحضر إلى السّلطان فجدع أنفه ، فلمّا تقارب الجمعان أرسل السّلطان يطلب المهادنة ، فقال أرمانوس : لا هدنة إلا بالرّيّ. فانزعج السّلطان فقال له إمامه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاريّ الحنفيّ : إنّك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان. وأرجو أن يكون الله قد كتب باسمك هذا الفتح. فالقهم يوم الجمعة في السّاعة الّتي يكون الخطباء على المنابر ، فإنّهم يدعون للمجاهدين (١).

فلمّا كان تلك السّاعة صلّى بهم ، وبكى السّلطان ، فبكى (٢) النّاس لبكائه ، ودعا فأمّنوا (٣) ، فقال لهم : من أراد الانصراف فلينصرف ، فما هاهنا سلطان بأمر ولا ينهى (٤). وألقى القوس والنّشاب ، وأخذ السّيف (٥) ، وعقد ذنب فرسه بيده ، وفعل عسكره مثله ، ولبس البياض وتحنّط وقال : إن قتلت فهذا كفني.

وزحف إلى الرّوم ، وزحفوا إليه ، فلمّا قاربهم ترجّل وعفّر وجهه بالتّراب ، وبكى ، وأكثر الدّعاء ، ثمّ ركب وحمل الجيش معه ، فحصل المسلمون في وسطهم ، فقتلوا في الروم كيف شاءوا ، وأنزل الله نصره ، وانهزمت الرّوم ، وقتل منهم ما لا يحصى ، حتّى امتلأت الأرض بالقتلى ، وأسر ملك الروم ، أسره غلام لكوهرائين فأراد قتله ولم يعرفه ، فقال له خدم (٦) مع الملك : لا تقتله فإنّه الملك.

وكان هذا الغلام قد عرضه كوهرائين على نظام الملك ، فردّه استحقارا له. فأثنى عليه أستاذه ، فقال نظام الملك : عسى يأتينا بملك الروم أسيرا. فكان كذلك.

ولمّا أحضر إلى بين يدي السّلطان ألب أرسلان ضربه ثلاث مقارع بيده

__________________

(١) في (الكامل ١٠ / ٦٦) زيادة : «بالنصر ، والدعاء مقرون بالإجابة».

(٢) في الأصل : «فبكا»

(٣) في الكامل ١٠ / ٦٦ : «ودعا ودعوا معه».

(٤) في الكامل : «يأمر وينهى».

(٥) زاد في الكامل : «والدبوس».

(٦) في الكامل ١٠ / ٦٦ : «خادم».

١٢

وقال : ألم أرسل إليك في الهدنة فأبيت؟.

فقال : دعني من التّوبيخ وافعل ما تريد.

قال : ما كان عزمك أن تفعل بي لو أسرتني؟

قال : أفعل القبيح.

قال : فما تظنّ أنّني أفعل بك؟

قال : إمّا أن تقتلني ، وإمّا أن تشهّرني في بلادك ، والأخرى بعيدة ، وهي العفو ، وقبول الأموال ، واصطناعي.

قال له : ما عزمت على غير هذه (١).

ففدى نفسه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار ، وأن ينفّذ إليه عسكره كلّما طلبه ، وأن يطلق كلّ أسير في مملكته. وأنزله في خيمة ، وأرسل إليه عشرة آلاف دينار ليتجهّز بها ، وخلع عليه وأطلق له جماعة من البطارقة ، فقال أرمانوس : أين جهة الخليفة؟

فأشاروا له ، فكشف رأسه وأومأ إلى الجهة بالخدمة ، وهادنه السّلطان خمسين سنة ، وشيّعه مسيرة فرسخ (٢).

وأمّا الرّوم ـ لعنهم الله ـ فلمّا بلغهم أنه أسر ملكوا عليهم ميخائيل ، فلمّا وصل أرمانوس إلى طرف بلاده بلغه الخبر ، فلبس الصّوف وأظهر الزّهد ، وجمع ما عنده من المال ، فكان مائتي ألف دينار وجوهر بتسعين ألف دينار ، فبعث به ، وحلف أنّه لا بقي يقدر على غير ذلك.

ثمّ إنّ أرمانوس استولى على بلاد الأرمن.

__________________

(١) في الكامل ١٠ / ٦٧ : «هذا».

(٢) علّق ابن العبري على هذا الخبر بقوله : «هكذا رأينا هذا الخبر في نسختين أحدهما عربية والثانية فارسية ، غير أن البطريرك ميخائيل المغبوط ذكر أن ابن أخت السلطان هو الّذي قبض على الملك وأن رجلا كرديّا وثب فقتله وأوثق الملك كأنه هو الّذي أحرز الغلبة ، وأن السلطان لما سأل الملك : ما كانت نيّتك أن تصنع بي لو وقعت بيدك؟ وأن ديو جنيس قال له : كنت أحرقك بالنار. فعلى ما يظهر أن عبارة كهذه لا يعقل أن يقولها ملك لملك. زد عليه أن رجلا كرديا لا يتيسّر له أن يقتل ابن أخت السلطان ويخطف الملك من يده مدّعيا أنه هو الّذي أوثقه ، إذا كان هذا الكردي يخشى أقلّه أن يفضح الملك كذبه». (تاريخ الزمان ١١١ ، ١١٢).

١٣

وكانت هذه الملحمة من أعظم فتح في الإسلام ، ولله الحمد (١).

[مسير أتسز بن أبق في بلاد الشام]

قال : وفيها سار أتسز (٢) بن أبق (٣) الخوارزميّ من أحد أمراء ألب أرسلان في طائفة من الأتراك ، فدخل الشام ، فافتتح الرملة ، ثمّ حاصر بيت المقدس وبه عسكر المصريين فافتتحه ، وحاصر دمشق ، وتابع النّهب لأعمالها حتّى خرّبها ، وثبت أهل البلد فرحل عنه (٤).

قلت : ولكن خرّب الأعمال ورعى الزّرع عدّة سنين حتّى عدمت الأقوات بدمشق ، وعظم الخطب والبلاء.

فلا حول ولا قوّة إلّا بالله.

__________________

(١) انظر عن (موقعة منازكرد) في :

تاريخ حلب للعظيميّ (زعرور) ٣٤٨ (سويّم) ١٥ ، المنتظم ٨ / ٢٦٠ ـ ٢٦٥ (١٦ / ١٢٣ ـ ١٢٨) ، الأعلاق الخطيرة لابن شدّاد ج ٣ / ق ١ / ٣٧٦ ، ٣٧٧ ، تاريخ الفارقيّ ١٨٦ ـ ١٩٢ ، الكامل في التاريخ ١٠ / ٦٥ ـ ٦٧ ، تاريخ الزمان ١١٠ ـ ١١٢ ، تاريخ مختصر الدول ١٨٥ ـ ١٨٦ ، تاريخ دولة آل سلجوق ٤٠ ـ ٤٤ المختصر في أخبار البشر ٢ / ١٨٧ ، راحة الصدور ١٨٨ ، ١٨٩ ، زبدة الحلب ٢ / ٢٧ ـ ٣٠ ، نهاية الأرب ٢٦ / ٣١٣ ـ ٣١٥ ، زبدة التواريخ ١٠٧ ـ ١١٥ ، ومرآة الزمان ٨ / ١٤٢ ـ ١٤٨ ، بغية الطلب (تراجم السلاجقة) ١٧ و١٨ و١٩ و٢٥ ، ٢٦ و٣١ ، الإنباء في تاريخ الخلفاء ٢٠٠ ، الدّرة المضيّة ٣٩٠ و٣٩٢ تاريخ ابن خلدون ٣ / ٤٧٠ ، النجوم الزاهرة ٥ / ٨٦ ، تاريخ الخلفاء ٤٢١ ، ٤٢٢ ، شذرات الذهب ٣ / ٣١١ ، البداية والنهاية ١٢ / ١٠٠ ، ١٠١ (في حوادث سنة ٤٦٢ ه‍.) ، لب التواريخ للقزويني ١٠٦ ، تاريخ كزيدة لحمد الله مستوفي القزويني ٤٣٣ ، السلاجقة في التاريخ والحضارة ٢٤ ـ ٢٦.

(٢) يرد في المصادر : «أتسز» و «أتسيز» و «أطسز» و «أقسيس». انظر : المنتفى من أخبار مصر ٢٤٢ ، والكامل في التاريخ ١٠ / ٩٩ بالمتن والحاشية ، وتاريخ مختصر الدول ١٩٢.

وقال ابن الأثير : «هذا الاسم أقسيس ، والصحيح أنه أتسيز ، وهو اسم تركي». (الكامل في التاريخ ١٠ / ١٠٣).

(٣) في الكامل ٨ / ١١٠ (طبعة دار الكتاب العربيّ) : «أوق» وكذا في طبعة صادر ١٠ / ٦٨ ، وذيل تاريخ دمشق ٩٨ ، ونهاية الأرب ٢٦ / ٣١٦ ، ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور ٤ / ٢٠٤ والمثبت يتفق مع : المختصر في أخبار البشر ٢ / ١٨٧.

(٤) انظر المصادر السابقة. والعبر ٣ / ٢٥٢ ، ودول الإسلام ١ / ٢٧٣ ، ومرآة الجنان ٣ / ٨٧ ، وتاريخ ابن الوردي ١ / ٣٧٤ ، وتاريخ ابن خلدون ٣ / ٤٧٣ ، والنجوم الزاهرة ٥ / ٨٧.

١٤

سنة أربع وستين وأربعمائة

[فتح نظام الملك حصن فضلون]

فيها سار نظام الملك الوزير إلى بلاد فارس ، فافتتح حصن فضلون ، وكان يضرب المثل بحصانته ، وأسر فضلون صاحبه ، فأطلقه السّلطان (١).

[الوباء في الغنم]

وفيها كان الوباء في الغنم ، حتّى قيل إنّ راعيا بطرف خراسان كان معه خمسمائة شاة ماتوا في يوم (٢).

[وفاة قاضي طرابلس ابن عمّار]

ومات قاضي طرابلس أبو طالب بن عمّار (٣) الّذي كان قد استولى عليها ، توفّي في رجب.

[تملّك جلال الملك طرابلس]

وتملّك بعده جلال الملك أبو الحسن بن عمّار ، وهو ابن أخي القاضي (٤) ،

__________________

(١) الكامل في التاريخ ١٠ / ٧١ ، ٧٢ ، نهاية الأرب ٢٦ / ٣١٧ ، ٣١٨.

(٢) المنتظم ٨ / ٢٧٣ (١٦ / ١٣٩) ، دول الإسلام ١ / ٢٧٣ ، تاريخ الخلفاء ٤٢٢.

(٣) هو : عبد الله ، أو الحسن ، الملقّب أمين الدولة. انظر عنه في كتابنا : تاريخ طرابلس السياسي والحضاريّ ج ١ / ٣٤٠ ـ ٣٥٢ (الطبعة الثانية).

(٤) الكامل في التاريخ ١٠ / ٧١ ، زبدة الحلب ٢ / ٣٥ ، المختصر في أخبار البشر ٢ / ١٨٨ ، الأعلاق الخطيرة ١ / ق ٢ / ١٠٧ ، تاريخ ابن الوردي ١ / ٣٧٥ ، مآثر الإنافة ١ / ٣٤٥ ، اتعاظ الحنفا ٢ / ٣٠٧ ، النجوم الزاهرة ٥ / ٨٩.

١٥

فامتدت أيّامه إلى بعد الخمسمائة (١) ، وأخذت منه الفرنج طرابلس ، ف (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) (٢).

__________________

(١) هذا القول غير صحيح وفيه وهم ، إذ أن جلال الملك أبا الحسن بن عمّار توفي سنة ٤٩٢ ه‍. ولم تمتدّ أيامه إلى بعد الخمسمائة. أما الّذي امتدّت أيامه إلى بعد الخمسمائة. فهو «فخر الملك أبو علي عمّار» ، وهو أخو «جلال الملك» ، انظر عنه كتابنا : تاريخ طرابلس ١ / ٣٧٩ ـ ٤٢٩ و٤٥٩ ـ ٤٦١ (الطبعة الثانية).

(٢) كان أخذ الفرنج لطرابلس في أواخر سنة ٥٠٢ ه‍. / ١١٠٩ م. انظر كتابنا : تاريخ طرابلس ٤٣٨ ـ ٤٤٦ (الطبعة الثانية). وسيأتي خبر ذلك في موضعه.

١٦

سنة خمس وستين وأربعمائة

[مقتل ألب أرسلان]

فيها قتل السّلطان ألب أرسلان ، وقام في الملك ولده ملك شاه (١).

[انتقال السلطنة إلى نظام الملك]

فسار أخو السّلطان قاروت بك (٢) صاحب كرمان بجيوشه يريد الاستيلاء على السّلطنة ، فسبقه إلى الرّيّ السّلطان ملك شاه ونظام الملك ، فالتقوا بناحية همذان في رابع شعبان ، فانتصر ملك شاه ، وأسر عمّه قاروت (٢) ، فأمر بخنقه بوتر فخنق ، وأقر مملكته على أولاده. وردّ الأمور في ممالكه إلى نظام الملك ، وأقطعه أقطاعا عظيمة ، من جملتها مدينة طوس ، ولقّبه «الأتابك» ، ومعناه الأمير

__________________

(١) انظر عن (مقتل ألب أرسلان) في :

تاريخ حلب للعظيميّ (زعرور) ٣٤٨ (سويم) ١٦ ، والمنتظم ٨ / ٢٧٦ ، ٢٧٧ (١٦ / ١٤٤ ، ١٤٥) ، وتاريخ الفارقيّ ١٩٧ ، والكامل في التاريخ ١٠ / ٧٣ ، ٧٤ ، وتاريخ الزمان ١١٣ ، وتاريخ مختصر الدول ١٨٦ ، وذيل تاريخ دمشق ١٠٦ ، وبغية الطلب (تراجم السلاجقة) ٢٦ ـ ٣٩ ، وزبدة التواريخ ١١٧ ـ ١١٩ ، ونهاية الأرب ٢٦ / ٣١٨ ، ٣١٩ ، وتاريخ دولة آل سلجوق ٤٧ ، ٤٨ ، والمختصر في أخبار البشر ٢ / ١٨٨ ، ١٨٩ ، والدرة المضيّة ٣٩٨ ، والعبر ٣ / ٢٥٦ ، ودول الإسلام ١ / ٢٧٤ ، ومرآة الجنان ٣ / ٨٩ و٩٠ ، تاريخ ابن الوردي ١ / ٣٧٥ ، مآثر الإنافة ١ / ٣٤٢ ، تاريخ ابن خلدون ٣ / ٤٧١ ، النجوم الزاهرة ٥ / ٩٢ ، تاريخ الخلفاء ٢٢ ، شذرات الذهب ٣ / ٣١٨ ، ٣١٩ ، البداية والنهاية ١٢ / ١٠٦ ، أخبار الدول ٢ / ١٦٣ ، لب التواريخ للقزويني ١٠٦ ، تاريخ كزيدة لحمد الله مستوفي القزويني ٤٣٣ ، السلاجقة ٣٦.

(٢) في الكامل ٨ / ١١٤ (طبعة الدار) : «قاورت بك» ، وكذا في طبعة صادر ١٠ / ٧٦ وبغية الطلب (تراجم السلاجقة) ٢٠ ، والمثبت يتفق مع : تاريخ الزمان ١١٣ ، وفي نهاية الأرب ٢٦ / ٣٢١ «قاورد» ، وكذا في : تاريخ دولة آل سلجوق ٤٨.

١٧

الوالد. وظهرت شجاعته وكفايته ، وحسن سيرته (١).

[الفتنة بين جيش المستنصر العبيدي والعبيد والعربان]

وفيها ، وفي حدودها وقعت فتنة عظيمة بين جيش المستنصر العبيديّ ، فصاروا فئتين : فئة الأتراك والمغاربة ، وقائد هؤلاء ناصر الدّولة ، أبو عبد الله الحسين بن حمدان (٢) ، من أحفاد (٣) صاحب الموصل ناصر الدّولة بن حمدان ، وفئة العبيد وعربان الصّعيد. فالتقوا بكوم الرّيش (٤) ، فانكسر العبيد ، وقتل منهم وغرق نحو أربعين ألفا ، وكانت وقعة مشهورة (٥).

وقويت نفوس الأتراك ، وعرفوا حسن نيّة المستنصر لهم ، وتجمّعوا وكثروا ، فتضاعفت عدّتهم ، وزادت كلف أرزاقهم ، فخلت الخزائن من الأموال ، واضطربت الأمور ، فتجمّع كثير من العسكر ، وساقوا إلى الصّعيد ، وتجمّعوا مع العبيد ، وجاءوا إلى الجيزة ، فالتقوا هم والأتراك عدّة أيّام ، ثمّ عبر الأتراك إليهم النّيل مع ناصر الدّولة بن حمدان ، فهزموا العبيد (٦).

ثمّ إنّهم كاتبوا أمّ المستنصر واستمالوها ، فأمرت من عندها من العبيد بالفتك بالمقدّمين ، ففعلوا ذلك ، فهرب ناصر الدّولة ، والتفّت عليهم التّرك ، فالتقوا ، ودامت الحرب ثلاثة أيام بظاهر مصر ، وحلف بن حمدان لا ينزل عن فرسه ولا يذوق طعاما حتّى ينفصل الحال. فظفر بالعبيد ، وأكثر القتل فيهم ،

__________________

(١) الكامل في التاريخ ١٠ / ٧٨ ، ٧٩ ، تاريخ الزمان ١١٣ ، ١١٤ ، نهاية الأرب ٢٦ / ٣٢١ ، تاريخ دولة آل سلجوق ٥٠ ، ٥١ ، المختصر في أخبار البشر ٢ / ١٨٩ ، تاريخ ابن الوردي ١ / ٣٧٦ ، البداية والنهاية ١٢ / ١٠٦.

(٢) في الكامل ٨ / ١١٥ (طبعة الدار) هو : «ناصر الدولة أبو علي الحسن بن حمدان» ، وكذا في طبعة صادر ١٠ / ٨٠ وفي نهاية الأرب (المخطوط) «الحسين» ، وفي المطبوع ٢٨ / ٢٢٦ «الحسن» ، ومثله في : اتعاظ الحنفا ٢ / ٢٧٣.

(٣) في الكامل : «من أولاد».

(٤) في : أخبار مصر ١٣ ، والنجوم الزاهرة ٥ / ١٨ «كوم شريك» ، بفتح الشين وكسر الراء ، هي اليوم إحدى قرى مركز كوم حمادة بمديرية البحيرة. (المواعظ والاعتبار ١ / ١٨٣ ، القاموس الجغرافي ج ٢ ق ٢ / ٣٣٩).

(٥) يجعل النويري هذه الحوادث في سنة ٤٥٩ ه‍. (نهاية الأرب ٢٨ / ٢٢٧).

(٦) اتعاظ الحنفا ٢ / ٢٧٤ (حوادث سنة ٤٥٩ ه‍.)

١٨

وزالت دولتهم بالقاهرة ، وأخذت منهم الإسكندريّة ، وخلت الدّولة للأتراك ، فطمعوا في المستنصر (١) ، وقلّت هيبته عندهم ، وخلت خزائنه البتّة.

وطلب ابن حمدان العروض ، فأخرجت إليهم ، وقوّمت بأبخس ثمن ، وصرفت إلى الجند. فقيل : إنّ نقد الأتراك كان في الشّهر أربعمائة ألف دينار (٢).

[تغلّب العبيد على ابن حمدان]

وأمّا العبيد فغلبوا على الصّعيد ، وقطعوا السّبل ، فسار إليهم ابن حمدان ، ففرّوا منه إلى الصّعيد الأعلى ، فقصدهم وحاربهم ، فهزموه. وجاء الفلّ إلى القاهرة. ثمّ نصر عليهم وعظم شأنه ، واشتدّت وطأته ، وصارحوا الكلّ ، فحسده أمراء التّرك لكثرة استيلائه على الأموال ، وشكوه إلى الوزير ، فقوّى نفوسهم عليه وقال : إنّما ارتفع بكم.

فعزموا على مناجزته ، فتحوّل إلى الجيزة ، فنهبت دوره ودور أصحابه ، وذلّ وانحلّ نظامه (٣).

[انكسار ابن حمدان أمام المستنصر]

فدخل في اللّيل إلى القائد تاج الملوك شاذي واستجار به ، وحالفه على قتل الأمير إلدكز ، والوزير الخطير. فركب إلدكز فقتل الوزير. ونجا إلدكز ، وجاء إلى المستنصر فقال : إن لم تركب وإلّا هلكت أنت ونحن. فركب في السّلاح ، وتسارع إليه الجند والعوامّ ، وعبّى الجيش ، فحملوا على ابن حمدان فانكسر واستحرّ القتل بأصحابه.

[تغلّب ابن حمدان على خصومه من جديد]

وهرب فأتى بني سنبس ، وتبعه فلّ من أصحابه ، فصاهر بني سنبس وتقوّى بهم ، فسار الجيش لحربه ، فأراد أحد المقدّمين أن يفوز بالظّفر ، فناجزه

__________________

(١) العبر ٣ / ٢٥٧ ، دول الإسلام ١ / ٢٧٥ ، تاريخ ابن الوردي ١ / ٣٧٦ ، اتعاظ الحنفا ٢ / ٢٧٣ و٢٧٥ (حوادث سنة ٤٥٩ و٤٦٠ ه‍.)

(٢) يجعل النويري هذه الحوادث في سنة ٤٦٠ ه‍. (نهاية الأرب ٢٨ / ٢٢٧) ، اتعاظ الحنفا ٢ / ٢٧٥ (حوادث سنة ٤٦٠ ه‍.) و٢٧٦.

(٣) اتعاظ الحنفا ٢ / ٢٧٦.

١٩

بعسكره ، والتقوا فأسره ابن حمدان ، وقتل طائفة من جنده.

ثمّ عدّى إليه فرقة ثانية لم يشعروا بما تمّ ، فحمل عليهم ، ورفع رءوس أولئك على الرّماح ، فرعبوا وانهزموا ، وقتلت منهم مقتلة. وساق وكبس بقيّة العساكر ، فهزمهم ، ونهب الرّيف ، وقطع الميرة عن مصر في البرّ والبحر ، فغلت الأسعار ، وكثر الوباء إلى الغاية ، ونهبت الجند دور العامّة ، وعظم الغلاء ، واشتدّ البلاء (١).

[رواية ابن الأثير عن الغلاء في مصر]

قال ابن الأثير (٢) : حتّى أنّ أهل البيت الواحد كانوا يموتون كلّهم في ليلة واحدة.

واشتدّ الغلاء حتّى حكي أنّ امرأة أكلت رغيفا بألف دينار ، فاستبعد ذلك ، فقيل إنّها باعت عروضها ، وقيمته ألف دينار ، بثلاثمائة دينار ، واشترت به قمحا ، وحمله الحمّال على ظهره ، فنهبت الحملة في الطّريق ، فنهبت هي مع النّاس ، فكان الّذي حصل لها رغيفا واحدا (٣).

[مصالحة الأتراك لناصر الدولة ابن حمدانّ]

وجاء الخلق ما يشغلهم عن القتال ، ومات خلق من جند المستنصر ، وراسل الأتراك الّذين حوله ناصر الدّولة في الصّلح ، فاصطلحوا على أن يكون تاج الملك شاذي نائبا لناصر الدّولة بن حمدان بالقاهرة يحمل إليه المال (٤).

__________________

(١) حتى هنا يجعل النويري هذه الحوادث ضمن سنة ٤٦١ ه‍. (نهاية الأرب ٢٨ / ٢٢٧ ـ ٢٣٠) ، وهي في سنة ٤٦٣ ه‍. عند المقريزي. (اتعاظ الحنفا ٢ / ٣٠٥).

(٢) في الكامل ١٠ / ٨٥.

(٣) العبارة في الكامل : «فكان الّذي حصل لها ما عملته رغيفا واحدا» ، وفي نهاية الأرب ٢٨ / ٢٣٤ «فحصّل لها ما جاء رغيفا واحدا». وانظر : اتعاظ الحنفا ٢ / ٢٧٨ ، والعبر ٣ / ٢٥٧ ، ٢٥٨ ، ومرآة الجنان ٣ / ٨٩ ، ٩٠ ، وتاريخ الخلفاء ٤٢٢ ، وشذرات الذهب ٣ / ٣١٨ و٢٩٩.

(٤) يجعل النويري هذه الحوادث في سنة ٤٦٣ ه‍. (نهاية الأرب ٢٨ / ٢٣٠) ومثله المقريزي في :

(اتعاظ الحنفا ٢ / ٣٠٦).

٢٠