حتى ولو حاز على ثقة الناس أجمعين ، بل ان هذه الثقة تضاعف من جريمته ، وتكون وبالا عليه عند الله ، والناس أيضا إذا انكشفت عنه حجب الخداع.
وتسأل : إذا اعتقد الناس ان فعلا من الأفعال محرم ، واعتقد شخص بينه وبين الله انه مباح لا ضمير فيه ، وتعاطاه في الخفاء خوفا من كلام الناس ، فهل يعد منافقا ومرائيا ، ثم هل يجب عليه أن يبين لهم ما يعتقد ، ويكون مسؤولا لو سكت عن خطأهم؟.
الجواب : لا بأس عليه في فعل ما يعتقد بإباحته ، ولا يعد من المنافقين والمراءين ما دام مرتاح الضمير ، لأن تكليفه الخاص يرتبط بوجدانه ، وليس بوجدان الناس .. بل يعذر في الخطأ ، إذ لا جرم ولا عيب في الخطأ ، أما بيان الحقيقة فيجب عليه من باب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لأن المفروض انه خطأ في معرفة الحكم ، لا في تشخيص الموضوع (١).
والآيات التي نحن بصددها تحدثت عن المنافقين الذين قامت الحجة عليهم بنبوة محمد (ص) ، واثبات الحق ، ومع ذلك أصروا على الإنكار عنادا وتمردا ، كما قامت على المشركين الذين عاندوا وحاربوا ، والفرق ان المشركين أعلنوا معاندتهم للحق ، وقالوا بجرأة وصراحة : لا نتبع الحق لأن الفقراء اتبعوه واعتنقوه : (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) ـ الشعراء ١١١». أما المنافقون فإنهم رفضوا الحق لهذا السبب أو لمثيله ، ولكنهم آثروا العناد ، وأظهروا التسليم جبنا وخداعا فكانوا أسوأ حالا من الكافرين ، حيث لاءم هؤلاء بين ظاهرهم وباطنهم ، وصدّقوا في إعلان الكفر والعناد ، تماما كمن يشرب الخمر على قارعة الطريق ، وخالف المنافقون بين ما أضمروا وأظهروا ، كالسفاح يلبس مسوح القديسين.
ولا دلالة لهذا الخداع إلا ان المنافق لا وازع له من دين أو عقل ، ولا من حق أو عدل ، ولا يتحرك ضميره لشيء ما دام بعيدا عن أعين الناس ، ومن كان هذا شأنه فمن الصعب ان يؤوب الى خير. ولذا نعت الله المنافقين في هذه
__________________
(١) إذا رأيت إنسانا يأكل الخنزير ـ مثلا ـ وهو يعلم بأنه لحم خنزير ، ولكن لا يعلم بحكمه وتحريمه فعليك ان ترشده إلى حكم الله ، وتبين له انه محرم ، أما إذا كان يعلم بالحكم ، ولكنه يعتقد ان هذا اللحم هو لحم غنم فلا يجب عليك البيان ، لأنه معذور ، والأول يسمى جاهلا بالحكم ، والثاني جاهلا بالموضوع.