الملتزم بالحق :
الناس من حيث الالتزام بالحق وعدمه اثنان : الأول يلتزم به لوجه الحق ، سواء أوافق غرضه الخاص ، أو خالفه ، بل لا غرض له يتنافى مع الحق ، والا لم يكن ملتزما ، ومن أجله يضحي ، ويتحمل المشاق ، تماما كالمريض ، ينشد الصحة في شرب الدواء المر ، وفي ألم المبضع ، والثاني لا يلتزم بشيء ، ولا قيمة عنده لشيء إلا إذا اتفق مع غرضه وهواه ، ولا يبالي بالنقد ، مهما كان صائبا .. ولا يخلو هذا المستهتر من أحد اثنين : اما مستهتر بالحق باطنا وظاهرا ، في قلبه ولسانه ، واما باطنا لا ظاهرا ، ويسمى الأول كافرا ، والثاني منافقا في عرف القرآن ، ويفترق الملتزم بالحق عن المستهتر بكلا قسميه ، يفترقان من وجوه :
«منها» : ان الملتزم يشعر بالمسؤولية ، على العكس من غير الملتزم الذي لا يشعر بشيء.
و «منها» : ان الملتزم لا يؤمن بشيء إلا مع الدليل المقنع ، أما غير الملتزم فلا يؤمن بشيء اسمه دليل وحجة ومنطق ، فالمبرر عنده عدم المبرر إلا ما يريد .. وإذا تظاهر بتبرير ارادته فإنما يفعل ذلك استخفاء من الناس ، وحرصا على حرمته عندهم.
و «منها» : ان الملتزم يفسح المجال للنقد ، ويرحب به ، ويصغي للناقد بامعان ، ويعدل عن رأيه إذا استبان له الخطأ ، وهذا هو المعني بقوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) ـ الزمر ١٨». وغير الملتزم : عنز ولو طارت (١) .. وقد صوّر الله الذين يصرون على ضلالتهم بأدق تعبير وأبلغه في العديد من الآيات الكريمة : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) ـ فصلت ٥» .. (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) ـ فاطر ١٤».
__________________
(١) قيل : ان رجلين أبصرا سوادا من بعيد ، فقال أحدهما : هذه عنز. وقال الآخر : بل غراب وأصر كل منهما على ما قال .. وبعد ثوان طار الغراب. فقال الذي أصاب لصاحبه : أرأيت؟ فقال زميله : عنز ولو طارت .. فذهبت مثلا.