المعنى :
بعد أن خاطب الله سبحانه الجميع بقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) أعاد الخطاب ثانية لخصوص المؤمنين بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ليبين لهم ان الايمان الصحيح لا يكون بحرمان النفس ، والامتناع عن الطيبات ، كما يفعل بعض الرهبان والقسيسين وغيرهم فانه سبحانه قد أحل لنا التمتع بالحياة ، والنعم الجسدية ، وأمرنا بالشكر عليها ، ومعنى شكرها أن نستعملها في الوجه الذي ينبغي استعمالها فيه. قال أمير المؤمنين (ع) : «أقلّ ما يلزمكم لله ان لا تستعينوا بنعمه على معاصيه». وعسى أن يتعظ بهذه الحكمة البالغة أهل الجاه والثراء ، ولا يستغلوهما في الملذات المحرمة ، وفي الكبر والطغيان.
(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ). وليس من شك ان المراد بالحرمة هنا حرمة الفعل ، وهو الأكل ، لا حرمة الأعيان ، لأن الأعيان لا يمكن وصفها بحل ولا بحرمة.
وبعد ان ذكر الله سبحانه في الآية السابقة الحلال مما يؤكل ذكر في هذه الآية أربعة أنواع مما يحرم أكله .. الأول : الميتة ، وهي كل حيوان مات من غير تذكية شرعية. الثاني : الدم ، والمراد به الدم المسفوح أي المتميز عن اللحم ، لأن ما يختلط باللحم معفو عنه. الثالث : الخنزير لحمه وشحمه وجميع أجزائه خلافا لداود الظاهري الذي قال : يحرم لحم الخنزير دون شحمه عملا بظاهر اللفظ ، وانما ذكر اللحم بالخصوص ، لأنه أظهر الأجزاء التي ينتفع بها. الرابع : ما أهلّ به لغير الله ، وهو ما ذكر عليه حين الذبح غير اسم الله تعالى ، سواء أذبح للأصنام ، أو لغيرها.
والحكمة في تحريم الأنواع الثلاثة الأولى صحية محض يعرفها الأطباء ، وأهل الاختصاص ، أما حكمة المنع عمّا ذكر غير اسم الله عليه فدينية صرف تهدف الى صيانة التوحيد والتنزيه عن الشرك.
وتسأل : ان ظاهر الآية يدل على انه لا يحرم من المأكولات سوى هذه الأربعة ، لأن (انما) تفيد الحصر ، وكل حصر يتضمن جملتين : الأولى تفيد