وإلقاما للحجر (١) : ﴿هاتُوا بُرْهانَكُمْ﴾ وآتو بحجّتكم على ما تدّعون من جهة العقل أو النقل ، لعدم صحّة الدعوى بغير حجّة خصوصا في الامور الدينيّة.
ثمّ بيّن سبحانه توافق الكتب السماويّة على التّوحيد ونفي الشرك بقوله : ﴿هذا﴾ الموجود بأيدينا من الكتب الثّلاثة التي أحدها القرآن الذي هو ﴿ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ﴾ من المؤمنين بي وعظتهم ، ﴿وَ﴾ إثنان منها ﴿ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي﴾ من الامم ، وهما : التوراة والإنجيل ، بين أيديكم فراجعوها وانظروا فيها ، هل تجدون فيها غير الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك ؟
وقيل : إنّ المعنى : هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمّن للبرهان القاطع العقلي ذكر امّتي وعظتهم ، وذكر الامم السابقة قد أقمته أنا ، واستدللت به ، فأقيموا أنتم أيضا برهانكم (٢) .
ثمّ أضرب الله تعالى عن الأمر بمحاجّتهم إعلانا بعدم قابليّتهم للخطاب والمحاجّة بقوله : ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ البديهيّات ، ولا يميّزون من غاية جهلهم وحمقهم بين ﴿الْحَقَ﴾ والباطل ، والدّليل الصّحيح والفاسد ، فعندهم ما هو أصل الفساد وهو الجهل ﴿فَهُمْ﴾ لذلك ﴿مُعْرِضُونَ﴾ عن التوحيد وآياته واتّباع الرسول ومعجزاته ، مستمرّون على الإعراض غير منصرفين عمّا هم عليه من الضّلال ، وإن كرّرت عليهم الحجج والبيّنات.
ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال على التوحيد بتوافق الكتب السماويّة عليه ، استدلّ باتّفاق كلمة الأنبياء الّذين هم أعقل عقلاء العالم عليه بقوله : ﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ﴾ إلى النّاس ﴿مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا﴾ فإذا علمتم ذلك ﴿فَاعْبُدُونِ﴾ خاصّة ولا تعبدوا غيري.
ثمّ بعد إبطال الشّرك أبطل القول باتّخاذه الملائكة بنات بقوله : ﴿وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ﴾ والإله الواسع الرّحمة والنّعمة لنفسه ﴿وَلَداً﴾ مع غناه عن كلّ شيء. قيل : هم حيّ من خزاعة (٣) . وقيل : هم قريش وجهينة وبنو سلمة وبنو مليح وخزاعة (٤) .
ثمّ ردّهم الله بقوله : ﴿سُبْحانَهُ﴾ من أن يكون الملائكة أولاده ﴿بَلْ﴾ هم ﴿عِبادٌ﴾ له والعباد لا يمكن أن يكونوا أولاد وهم ﴿مُكْرَمُونَ﴾ عنده مقرّبون لديه منقادون لإرادته بحيث إنّهم ﴿لا يَسْبِقُونَهُ﴾ تعالى ﴿بِالْقَوْلِ.﴾
قيل : نزّل سبحانه سبقهم بالقول لقوله تعالى منزلة سبقهم له ، للإشعار بمزيد تنزّههم منه (٥)﴿وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ ولحكمه مطيعون.
__________________
(١) ألقمه الحجر : أسكته عند المخاصمة.
(٢) تفسير أبي السعود ٦ : ٦٢ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤٦٦.
(٣) تفسير الرازي ٢٢ : ١٥٩ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٦٣.
(٤ و٥) تفسير أبي السعود ٦ : ٦٣.