وحاصل المعنى - والله أعلم - أنّهم لا يؤمنون إلّا عند نزول عذاب الاستئصال ، أو حين تواصل عذاب الدنيا عليهم بعذاب الآخرة ، وحينئذ لا ينفعهم الإيمان.
ثمّ لمّا بيّن الله أنّ جبلّة الإنسان على الجدال بيّن أنّهم يجادلون ويقترحون على الرسل مع أنّ وظيفتهم التبشير والإنذار بقوله : ﴿وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ﴾ إلى الناس لغرض من الأغراض ﴿إِلَّا﴾ لغرض واحد وهو أن يكونوا ﴿مُبَشِّرِينَ﴾ للمؤمنين المطيعين بالثواب ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾ للكافرين والعصاة بالعذاب ، لا لموافقتهم أهواء النّاس وإتيانهم بمقترحاتهم وعملهم بمتوقّعاتهم ، من طرد الفقراء ، ومجالسة المتكبّرين ﴿وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ رسلهم ﴿بِالْباطِلِ﴾ كقولهم : لا يكون الرسول إلّا ملكا ، أو من يكون له بيت من زخرف ، إلى غير ذلك ﴿لِيُدْحِضُوا﴾ بجدالهم ويزيلوا ﴿بِهِ الْحَقَ﴾ الذي جاءهم به الرسول عن مقرّه ويبطلوه ويطفئوا نوره ﴿وَاتَّخَذُوا آياتِي﴾ الدالّة على الحقّ ومعجزات الرسول ﴿وَما أُنْذِرُوا﴾ وخوّفوا به من العذاب على الكفر ﴿هُزُواً﴾ وسخريّة.
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا
عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ
يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧)﴾
ثمّ ذمّهم سبحانه بقوله : ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ وهل يكون أحد ، أكثر إساءة على نفسه ﴿مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ﴾ وتليت عليه حجج الله ومواعظه بالعبارات التي تكون في أعلى درجة الإعجاز ﴿فَأَعْرَضَ﴾ ولوى رأسه ﴿عَنْها﴾ وألقاها وراء ظهره ولم يتدبّرها ولم يتفكّر فيها ﴿وَ﴾ مع ذلك ﴿نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ﴾ وتغافل عمّا أرتكبه من السيّئات وعن سوء عاقبتها.
ثمّ بيّن سبحانه علّة إعراضهم وتناسيهم بقوله : ﴿إِنَّا جَعَلْنا﴾ بسبب كفرهم وعصيانهم ﴿عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ الخبيثة المظلمة ﴿أَكِنَّةً﴾ وأغطية حين تلاوة القرآن عليهم كراهة ﴿أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾ ويفهموا ما فيه من الأعجاز والحكم والمعارف والأحكام ﴿وَ﴾ جعلنا ﴿فِي آذانِهِمْ وَقْراً﴾ وثقلا وصمما ﴿وَ﴾ كراهة أن يستمعوه حقّ الاستماع ﴿وَ﴾ لذا ﴿إِنْ تَدْعُهُمْ﴾ يا محمّد ﴿إِلَى الْهُدى﴾ الذي هو دين الإسلام ﴿فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً﴾ لعدم تأثّر قلوبهم بقولك ، كعدم تأثّرهم بالقرآن ، فلا تتعب في دعوتهم ولا تحزن على ضلالتهم.
﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ
مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً * وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا