ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة حشر الخلق بقوله : ﴿وَعُرِضُوا﴾ بعد حشرهم ﴿عَلى رَبِّكَ﴾ كما يعرض الجند على الملك حال كونهم ﴿صَفًّا﴾ صفّا ، ومجتمعين غير متفرّقين ولا مختلطين يرى جميعهم كما يرى واحدهم.
عن الصادق عليهالسلام : « هم يومئذ عشرون ومائة ألف صفّ في عرض الأرض » (١) .
فيقول الله لهم : ﴿لَقَدْ جِئْتُمُونا﴾ من الدنيا بلا مال وأولاد وأعوان حفاة عراة ﴿كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.﴾
عن عائشة قلت : يا رسول الله ، كيف يحشر النّاس يوم القيامة ؟ قال : « عراة حفاة » قلت : والنساء ؟ ! قال : « نعم » قلت : يا رسول الله ، نستحيي ! قال : « يا عائشة ، الأمر أشدّ من ذلك ، لن يهمّهم أن ينظر بعضهم إلى بعض » (٢) .
ثمّ يخاطب المنكرين للبعث ويقول سبحانه لهم توبيخا وتقريعا : ﴿بَلْ زَعَمْتُمْ﴾ وادّعيتهم بالكذب في الدنيا ﴿أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ﴾ أبدا ﴿مَوْعِداً﴾ ووقتا ننجز فيه ما وعدناه على ألسنة الرّسل من البعث وتبعاته ، فاليوم قد تعيّن لكم صدق ما أخبروكم ، وشاهدتم أنّ السّاعة حقّ ، والبعث صدق ، وتركتم في الدنيا ما كنتم تفتخرون به من الأموال والأولاد والأعوان.
﴿وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مال
لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً
وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩)﴾
ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة المحاسبة بقوله : ﴿وَوُضِعَ الْكِتابُ﴾ الذي فيه أعمال الخلق في أيديهم ﴿فَتَرَى﴾ يا محمّد ، أو أيّها الرائي ﴿الْمُجْرِمِينَ﴾ والعصاة ﴿مُشْفِقِينَ﴾ وخائفين ﴿مِمَّا﴾ هو مكتوب ﴿فِيهِ﴾ من العقائد الفاسدة ، والأعمال السيّئة ، والذنوب الصغيرة والكبيرة ، فينادون ﴿وَيَقُولُونَ﴾ حين اطّلاعهم على أعمالهم المكتوبة فيه نقيرها (٣) وقطميرها (٤) تعجّبا وتحسّرا : ﴿يا وَيْلَتَنا﴾ وهلكتنا احضري فهذا أوانك ﴿ما لِهذَا الْكِتابِ﴾ وأيّ شيء له ، فإنّه ﴿لا يُغادِرُ﴾ ولا يترك فعلة ﴿صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها﴾ وضبطها ﴿وَوَجَدُوا﴾ جميع ﴿ما عَمِلُوا﴾ في الدنيا ﴿حاضِراً﴾ ومثبوتا فيه ، وإنّما يعترفون به لأنّهم يجدونه مطابقا لما كتبوه في صحائف نفوسهم بقلم
__________________
(١) الاحتجاج : ٣٥٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤٥.
(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٢٥٢.
(٣) النّقير : النّكتة في ظهر النّواة.
(٤) القطمير : القشرة الرقيقة بين النّواة والتمر.