هامان غائبا ، وكان لا يقطع أمرا بدونه ، فلمّا قدم أخبره بمقالة موسى عليهالسلام وإرادته الإيمان به ، فقال له هامان : كنت أرى أنّ لك عقلا ورأيا ، أنت الآن ربّ ، وتريد أن تكون مربوبا ؟ ! فأبى عن الإيمان (١) .
﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا
مُوسى * قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى * قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ
الْأُولى * قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٤٨) و (٥٢)﴾
ثمّ هدّده موسى عليهالسلام بترك الإيمان بقوله : ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ﴾ من قبل ربّنا ﴿إِلَيْنا﴾ بتوسط جبرئيل ﴿أَنَّ الْعَذابَ﴾ الشديد الدائم ﴿عَلى مَنْ كَذَّبَ﴾ بآيات ربّه وبما جاء به أنبياؤه ﴿وَتَوَلَّى﴾ وأعرض عن قبول دعوة رسله وتصديق الحقّ ﴿قالَ﴾ فرعون : إن كنتما رسولي ربّكما ﴿فَمَنْ رَبُّكُما﴾ الذي أرسلكما ﴿يا مُوسى﴾ وإنّما خصّ النداء بموسى عليهالسلام لكونه أصلا وهارون تابعه ، أو لعلمه برثّة في لسانه ، فأراد استنطاقه لتوهينه دون هارون لعلمه بفصاحته ، أو لكون موسى عليهالسلام في تربيته ، فتعجّب من دعوى كونه مربوبا لغيره ، فكأنّه قال : أنا ربّك ، فلم تدعو ربّا غيري ، وإضافة الربّ إليهما لغاية عتوّه.
﴿قالَ﴾ موسى عليهالسلام في جوابه : ﴿رَبُّنَا﴾ هو الله القادر ﴿الَّذِي﴾ بقدرته ورحمته ﴿أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء ﴿خَلْقَهُ﴾ والصورة المناسبة له والشكل اللائق به ، الموافق لما يترتّب عليه من الخواصّ والمنافع ﴿ثُمَّ هَدى﴾ كلّ واحد إلى ما يصدر وما ينبغي له ، طبعا كما في الجمادات والنباتات ، واختيارا كما في الحيوانات.
وقيل : إنّ الخلق عبارة عن تركيب الأجزاء وتسوية القوالب ، والهداية عبارة عن إبداع القوى المحرّكة والمدركة فيها ، ولذا قدّم الخلق (٢) وعطف عليه الهداية بكلمة ( ثمّ ) الدالة على التراخي.
ويحتمل أن يكون المراد بالهداية الهداية إلى معرفته بقدر إدراكه واستعداده ، فإنّ لكلّ شيء حياة وشعورا على حدّ وجوده من الضّعف والقوّة ، كما مرّ بيانه غير مرّة ، أو المراد أنّه تعالى هداه إلى مصالح نفسه ولوازم معيشته ، وعرّفه الضار والنافع ، كما ألهم النّحل تركيب البيوت المسدّسة ، ومعرفة ما يضرّه وما ينفعه من النباتات ، وألهم الحيوانات ما به قوامها من المطعوم والمشروب والملبوس والمنكوح ، وكيفيّة الانتفاع بها ، وعرّف الذكر الانثى وبالعكس ، وهداه إلى كيفيّة المقاربة ليدوم النسل ، وهدى الأولاد إلى أخذ الثّدي ومصّ اللبن منها.
__________________
(١) تفسير روح البيان ٥ : ٣٨٩.
(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ٦٤.