مع عقلهم لا يعرفون ربّهم المحسن إليهم ، ولا ينقادون لمن يدلّهم إلى معرفته ، ولا يطلبون ثوابه الذي هو أعظم المنافع ، ولا يجتنبون عقابه الذي هو أعظم المضارّ ، ولأنّها لو لم تعتقد حقّا لا تعتقد باطلا ولا تكسب شرا بخلاف هؤلاء ، ولأنّ جهالتها وضلالها لا تضرّ أحدا ، وجهالة هؤلاء وضلالهم تؤدي إلى هج (١) الفتن وصدّ الناس عن كلّ حقّ وخير ، ولأنّها عاجزة عن تحصيل الكمال ، فلا تقصير منها ولا ذمّ عليها ، بخلاف هؤلاء فانّهم قادرون عليه ، مقصرّون فيه ، مستحقّون لأشد الذمّ والعقاب.
﴿أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ
دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٥) و (٤٦)﴾
ثمّ أنّه تعالى لمّا ذمّ المشركين بعدم سماعهم الحجج على توحيده ، وعدم تفكّرهم فيها ، شرع في بيان أوضح الحجج عليها زائدا على ما سبق بقوله : ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ بعين رأسك ، وبعين قلبك يا محمد ﴿إِلى﴾ صنع ﴿رَبِّكَ﴾ أنّه بقدرته الكاملة ﴿كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ﴾ وبسط الكيفية المتوسطة بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة التي تكون بين الطلوعين وتحت السقوف وأفنية الجدران ، وهي الحالة التي تكون أطيب الأحوال ، لأنّ الظلمة الخالصة يكرهها الطبع ، وينفر عنها الحس ، والضوء الخالص يبهر البصر ، ويؤثّر السخونة الشديدة ، ولذا وصف سبحانه الجنّة بها بقوله : ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾(٢) ومن المعلوم أنه من النّعم العظيمة والمنافع الجليلة التي لا بدّ لها من موجد ، ولا يكون إلّا الله ، لعدم قدرة غيره على إيجاده.
﴿وَلَوْ شاءَ﴾ الله سكونه ، ورأى الصلاح فيه ﴿لَجَعَلَهُ ساكِناً﴾ وثابتا على حالة واحدة من الطول والعرض والامتداد والاقامة ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً﴾ ومعرّفا ، لأنّ الأشياء تعرف بأضدادها ، فانّه لو لا الشمس لما رؤي (٣) غير الجسم ولونه ، ولا يري الظلّ موجودا ثالثا ، فاذا أشرقت الشمس وزال الظلّ بضوئها ، عرف أنّه شيء بحياله ، كما أنّه لو لا الظلمة لما عرف النور ، فالمراد من الآية أنا خلقنا الظلّ أولا لما فيه من المنافع ، ثم هدينا العقول إلى معرفة وجوده باطّلاع الشمس ، فكانت الشمس دليلا على وجود الظلّ الذي هو نعمة عظيمة.
﴿ثُمَّ قَبَضْناهُ﴾ ورفعناه ﴿إِلَيْنا قَبْضاً﴾ ورفعا ، ولكن لا دفعة ، بل يسيرا ﴿يَسِيراً﴾ فانّ الشمس كلّما ازدادت ارتفاعا ازداد الظلّ نقصانا من جانب المغرب.
__________________
(١) يقال : هجّ النار ، أوقدها ، وفي تفسير روح البيان ٦ : ٢١٨ : هيج.
(٢) الواقعة : ٥٦ / ٣٠.
(٣) في النسخة : رأى.