سليمان ، فنظر إلى الطيور فرأى مكان الهدهد خاليا منه ، فتفحّص عنه ، واحتمل أن يكون عدم رؤيته إياه لتغييره مكانه ، أو لعروض مانع عن رؤيته فقال : ما لي لا أرى الهدهد ؟
﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ
بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢١) و (٢٢)﴾
ثمّ [ لمّا ] احتاط وبالغ في التفتيش والسؤال عنه ، حتى علم أنه غائب ، أضرب عمّا احتمل ، وقال : بل كان من الغائبين ، وغضب عليه ، وقال : والله ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ﴾ تأديبا وصلاحا لانتظام الملك ﴿عَذاباً شَدِيداً﴾ وهو نتف ريشه (١) وإلقاؤه في الشمس ، كما عن بن عباس (٢) ، أو ألقاؤه حيث النمل فتأكله ، أو طليه بالقطران وتشميسه ، أو عزله من خدمته ، أو إلزامه خدمة أقرانه ، أو التفريق بينه وبين إلفه وزوجته ، أو تزويجه من عجوز ، أو جعله مع ضدّه في قفص (٣)﴿أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ﴾ لتعتبر به أبناء جنسه ، ولئلّا يكون له نسل ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ وحجّة واضحة على عذره في غيبته.
وإنّما كان الحلف في الواقع على أحد الفعلين الأولين على تقدير عدم الثالث ، ولكن لمّا كان مقتضيا لوقوع أحد الثلاثة جعل الثلاثة في الظاهر متعلّقا للحلف على سبيل المجاز ، فحلف على أنّه لا بدّ من وقوع أحد الثلاثة.
حكي أنّه لما أرتفع الهدهد إلى الهواء رأى هدهدا آخر واقفا فانحطّ إليه في الهواء ، ووصف له ملك سليمان وما سخّر له من كلّ شيء ، ووصف له صاحبه ملك بلقيس واقتدارها ، وأنّ تحت يدها اثني عشر ألف قائد ، تحت يد كلّ قائد مائة ألف ، فذهب معه لينظر ، فما رجع إلّا بعد العصر (٤) ﴿فَمَكَثَ﴾ سليمان وانتظره زمانا قريبا ﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ وأمدا غير مديد.
قيل : دعا سليمان عليهالسلام عريف الطير ، وهو النسر ، فسأله عن الهدهد فلم يجد علمه عنده ، ثمّ قال لسيد الطير وهو العقاب : عليّ به ، فارتفعت فنظرت ، فاذا هو مقبل فقصدته ، فناشدها الله تعالى وقال : بحقّ الذي قوّاك وأقدرك إلّا رحمتني ، فتركته وقالت : ثكلتك امّك ، إنّ نبيّ الله حلف ليعذّبك ، قال : أو ما استثنى ؟ قالت : بلى. قال : أو ليأتيني بعذر مبين ، فلمّا قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرّهما على الأرض تواضعا له ، فلمّا دنا منه أخذ عليهالسلام برأسه فمدّه إليه ، فقال : يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله ، فارتعد سليمان ، ثمّ قال له : يا هدهد ، كيف أنت إن نتفت ريشك وألقيتك في حرّ
__________________
(١) في النسخة : شعره.
(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ١٨٩.
(٣و٤) تفسير روح البيان ٦ : ٣٣٧.