وخلّف أخيه هارون فيهم ، فلمّا ذهب بمن معه وقرب من الطّور ، أسرع في المشي ، وسبقهم في الصّعود على الطّور شوقا إلى كلام ربّه ، وأمرهم أن يتّبعوه ، فخاطبه الله بقوله : ﴿وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ﴾ ودعاك إلى الإسراع إلى الصّعود على الطّور ، وأن تخلّف النّقباء الّذين امرت أن تكون معهم ﴿يا مُوسى﴾(١) .
وقيل : إنّ المراد بقومه جملة بني إسرائيل الذين خلّف هارون فيهم (٢) ، فلمّا رأى موسى عليهالسلام إنكاره تعالى عليه تقدّمه على قومه وحضوره منفردا في الميقات ، مع كونه مأمورا باستصحابهم وإحضارهم معه ، وكون تعجيله منافيا للحزم اللائق باولي العزم ، أخذته الهيبة ، فأخذ بالاعتذار و﴿قالَ :﴾ ربّ ﴿هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي﴾ ومن ورائي ، وإنّما سبقتهم بخطى يسيرة لا تخلّ بالمعيّة التي أمرتني بها ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ﴾ وسبقتهم يسيرا إلى الصعود على الطّور ﴿رَبِّ لِتَرْضى﴾ بمسارعتي إلى امتثال أمرك ، واهتمامي بالوفاء بوعدك ، واشتياقي إلى استماع كلامك.
عن الصادق عليهالسلام قال : « المشتاق لا يشتهي طعاما ، ولا يلتذّ بشراب ، ولا يستطيب رقادا ، ولا يأنس حميما ، ولا يأوي دارا ، ولا يسكن عمرانا ، ولا يلبس لباسا ، ولا يقرّ قرارا ، ويعبد الله ليلا ونهارا ، راجيا بأن يصل إلى ما يشتاق إليه ، ويناجيه بلسان شوقه ، معبّرا عمّا في سريرته ، كما أخبر الله عن موسى بن عمران عليهالسلام في ميعاد ربّه بقوله : ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى﴾ وفسّر النبي صلىاللهعليهوآله عن حاله أنّه ما أكل ولا شرب ولا نام ولا اشتهى شيئا من ذلك في ذهابه ومجيئه أربعين يوما شوقا إلى ربّه»(٣).
وإنّما ذكر الله بصفة الربوبيّة ، لزيادة التضرّع والابتهال رغبة في قبول عذره.
ثمّ أخبره الله بافتتان قومه بعد خروجه من بينهم ، لتعجيلهم وعدم صبرهم لرجوع موسى عليهالسلام حيث ﴿قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا﴾ وابتلينا ﴿قَوْمَكَ﴾ بني إسرائيل مع إخلافك هارون فيهم ﴿مِنْ بَعْدِكَ﴾ وزمان غيابك عنهم بعبادة العجل.
روى أنّهم أقاموا على ما وصّى به موسى عليهالسلام عشرين ليلة بعد ذهابه ، فحسبوها مع أيّامها أربعين ، وقالوا : قد أكملنا العدّة وليس من موسى عليهالسلام عين ولا أثر (٤) ، ﴿وَأَضَلَّهُمُ﴾ عند ذلك ﴿السَّامِرِيُ﴾ بتدبيره وحيلته.
روي أنّ السّامري كان من بني إسرائيل ، وتولّد في زمان كان فرعون يقتل أبناءهم ، فألقته أمّه في جزيرة في النّيل ، فأمر الله جبرئيل أن يربّيه ويحفظه ، ويأتي بمأكوله ومشروبه ، ثمّ جاء في قومه ، وكان
__________________
(١) تفسير روح البيان ٥ : ٤١٢.
(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ٩٩.
(٣) مصباح الشريعة : ١٩٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣١٦.
(٤) تفسير الرازي ٢٢ : ١٠١ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤١٤.