وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً)(١١١)
قوله : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) الآية.
لما بيّن أن القرآن معجز قاهر دالّ على الصدق في قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) [الإسراء : ٨٨].
ثم حكى عن الكفار أنّهم لم يكتفوا بهذا المعجز ، بل طلبوا أشياء أخر ، ثم أجاب تعالى بأنّه لا حاجة إلى إظهار معجزات أخر ، وبيّن ذلك بوجوه كثيرة :
منها : أنّ قوم موسى آتاهم تسع آيات بيّنات ، فلما جحدوا بها أهلكهم الله ، فكذا ههنا ، أي : أنّ المعجزات التي اقترحها قوم محمد صلىاللهعليهوسلم ثمّ كفروا بها ؛ فوجب إنزال عذاب الاستئصال بهم ، وذلك غير جائز في الحكمة ؛ لعلمه تعالى أنّ فيهم من يؤمن ، أو من يظهر من نسله مؤمن. لمّا تمّ هذا الجواب ، عاد إلى حال تعظيم القرآن ؛ فقال : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) ، أي: ما أردنا بإنزاله إلّا إظهار الحقّ.
قوله : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) : في هذا الجار ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه متعلق ب «أنزلناه» ، والباء سببية ، أي : أنزلناه بسبب الحقّ.
والثاني : أنه حال من مفعول «أنزلناه» ، أي : ومعه الحقّ.
فتكون الباء بمعنى «مع» قاله الفارسي ؛ كما تقول : نزل بعدّته ، وخرج بسلاحه.
والثالث : أنه حال من فاعله ، أي : ملتبسين بالحق ، وعلى هذين الوجهين يتعلق بمحذوف.
والضمير في «أنزلناه» الظاهر عوده للقرآن : إمّا الملفوظ به في قوله قبل ذلك (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) [الإسراء : ٨٨] ؛ ويكون ذلك جريا على قاعدة أساليب كلامهم ، وهو أن يستطرد المتكلم في ذكر شيء لم يسبق له كلامه أولا ، ثم يعود إلى كلامه الأول. وإمّا للقرآن غير الملفوظ أولا ؛ لدلالة الحال عليه ؛ كقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) [الدخان : ٣] وقيل : يعود على موسى ؛ كقوله : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) [الحديد : ٢٥] ، وقيل : على الوعد ، وقيل : على الآيات التّسع ، وذكر الضمير ، وأفرده ؛ حملا على معنى الدليل والبرهان.
قوله : (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) فيه الوجهان الأولان ، دون الثالث ؛ لعدم ضمير آخر غير ضمير القرآن لاحتمال أن يكون التقدير : نزل بالحقّ ؛ كما تقول : نزلت بزيد ، وعلى هذا التقدير : فالحقّ محمد صلىاللهعليهوسلم. وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها للتأكيد ؛ وذلك أنه يقال : أنزلته ، فنزل ، وأنزلته فلم ينزل ؛ فجيء بقوله (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) ؛ دفعا لهذا الوهم ، وقيل : ليست للتأكيد ، والمغايرة تحصل بالتغاير