قوله : (مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) قرأ (١) ابن عامر : «فتنوا» مبنيّا للفاعل ، أي : فتنوا أنفسهم فإن عاد الضمير على المؤمنين ، فالمعنى : فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول ظاهرا ، أو أنهم صبروا على عذاب المشركين ، فكأنهم فتنوا أنفسهم.
وإن عاد على المشركين ، فهو واضح ، أي : فتنوا المؤمنين.
والباقون «فتنوا» مبنيا للمفعول ، والضمير في «بعدها» للمصادر المفهومة من الأفعال المتقدمة ، أي : من بعد الفتنة ، والهجرة ، والجهاد.
وقال ابن عطيّة (٢) : «عائد على الفتنة ، أو الفتنة والهجرة أو الجهاد أو التوبة».
فصل
وجه القراءة الأولى أمور :
الأول : أن يكون المراد أنّ أكابر المشركين ـ وهم الذين آذوا فقراء المسلمين ـ لو تابوا وهاجروا وصبروا ، فإنّ الله يقبل توبتهم.
والثاني : أن «فتن» و«أفتن» بمعنى واحد ؛ كما يقال : مان وأمان بمعنى واحد.
والثالث : أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقيّة ؛ فكأنهم فتنوا أنفسهم ؛ لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت في ذلك الوقت.
وأما وجه القراءة الثانية فظاهر ؛ لأن أولئك المفتونين هم المستضعفون الذين حملهم المشركون على الرجوع عن الإيمان ، فبين ـ تعالى ـ أنهم إذا هاجروا وجاهدوا وصبروا ، فإن الله تعالى يغفر لهم تكلمهم كلمة الكفر.
فصل
يحتمل أن يكون المراد بالفتنة : هو أنهم عذّبوا ، وأنهم خوّفوا بالتّعذيب ، ويحتمل أن يكون المراد : أن أولئك المسلمين ارتدّوا.
وقال الحسن ـ رضي الله عنه ـ : هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكّة ، فعرضت لهم فتنة فارتدّوا ، وشكّوا في الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ثم أسلموا وهاجروا ، ونزلت هذه الآية فيهم (٣).
وقيل : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وكان يكتب للنبي صلىاللهعليهوسلم فاستزلّه الشيطان فلحق بالكفّار ، فأمر النبي صلىاللهعليهوسلم يوم فتح مكّة بقتله ، فاستجار له عثمان ، وكان أخاه
__________________
(١) ينظر : السبعة ٣٧٦ ، والإتحاف ٢ / ١٩٠ ، والتيسير ٣٩٥ ، والبحر ٥ / ٥٢٢ ، والحجة ٣٩٥ ، والنشر ٢ / ٣٠٥ ، والوسيط ٣ / ٨٧.
(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٤٢٥.
(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٠١).