وقال الواحديّ (١) : «فتقعد» : انتصب ؛ لأنّه وقع بعد الفاء ؛ جوابا للنهي ، وانتصابه بإضمار «أن» كقولك : لا تنقطع عنّا ، فنجفوك ، والتقدير : لا يكن منك انقطاع ؛ فيحصل أن نجفوك ، فما بعد الفاء متعلّق بالجملة المتقدمة بحرف الفاء ، وإنّما سمّاه النحويون جوابا ؛ لكونه مشابها للجزاء في أنّ الثاني مسبّب عن الأول ؛ ألا ترى أنّ المعنى : إن انقطعت جفوتك ، كذلك تقدير الآية : إن جعلت مع الله إلها آخر ، قعدت مذموما مخذولا.
فصل في معنى القعود في الآية
ذكروا في هذا القعود وجوها :
أحدها : أن معناه المكث أي : فتمكث في النّاس مذموما مخذولا ، وهذه اللفظة مستعملة في لسان العرب والفرس في هذا المعنى ، إذا سأل الرجل غيره : ما يصنع فلان في تلك البلدة؟ فيقول المجيب : هو قاعد بأسوأ حال.
معناه : المكث ، سواء كان قائما أو قاعدا.
وثانيها : أنّ من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادما متفكرا على ما فرط منه.
وثالثها : أنّ المتمكن (٢) من تحصيل الخيرات يسعى في تحصيلها ، والسّعي إنما يتأتى بالقيام ، وأما العاجز عن تحصيلها ، فإنّه لايسعى ، بل يبقى جالسا قاعدا عن الطّلب ، فلمّا كان القيام على الرّجل أحد الأمور التي يتمّ بها الفوز بالخيرات ، وكان القعود والجلوس علامة على عدم تلك المكنة والقدرة ، لا جرم جعل القيام كناية عن القدرة على تحصيل الخيرات ، والقعود كناية عن العجز والضعف.
قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً)(٢٤)
قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ).
لما ذكر في الآية المتقدمة ما هو الركن الأعظم في الإيمان ، أتبعه بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائعه ، وهي أنواع :
الأول : أن يشتغل الإنسان بعبادة الله سبحانه وتعالى ، ويتحرّز عن عبادة غير الله تعالى.
والقضاء : الحكم الجزم البتّ الذي لا يقبل النسخ ؛ لأنّ الواحد منا ، إذا أمر غيره بشيء لا يقال : قضى عليه ، فإذا أمره أمرا جزما ، وحكم عليه بذلك على سبيل البتّ والقطع ، فها هنا يقال : قضى عليه ، وروى ميمون بن مهران عن ابن عبّاس ـ رضي الله
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٤٧.
(٢) في ب : التمكن.