والبحث الثاني : ذكر كونه مظلوما بصيغة التنكير ، والتنكير يدلّ على الكمال ، فما لم يكن المقتول كاملا في وصف المظلوميّة لم يدخل تحت هذا النصّ ، فالمسلم إذا قتل الذميّ ، لم يدخل تحت هذه الآية ؛ لأنّ الذميّ مشرك ، والمشرك يحلّ دمه.
ويدلّ على أن الذمّي مشرك قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) [النساء : ٤٨].
حكم بأنّ ما سوى الشّرك يغفر في حقّ البعض ، فلو كان كفر اليهوديّ والنصرانيّ مغايرا للشّرك ، وجب أن يغفر في حقّ بعض الناس لهذه الآية ، فلما لم يغفر في حقّ أحد ، دلّ على أنّ كفرهم شرك ، ولأنه تعالى قال : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة : ٧٣] فهذا التثليث الذي قال به هؤلاء : إمّا أن يكون تثليثا في الصفات ، وهو باطل ؛ لأنّ ذلك هو الحقّ ، وهو مذهب أهل السنة والجماعة ، فلا يمكن جعله سببا للكفر ، وإمّا أن يكون تثليثا في الذّوات ، وذلك هو الشرك ؛ فثبت أن الذميّ مشرك ، والمشرك يجب قتله ؛ لقوله تعالى : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ) فاقتضى هذا الدليل إباحة دم الذميّ ، فإن لم تثبت الإباحة ، فلا أقلّ من حصول شبهة الإباحة.
وإذا ثبت هذا ، ثبت أنه ليس كاملا في المظلوميّة ، فلم يندرج تحت قوله : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً).
وأما الحرّ ، إذا قتل عبدا ، فيدخل تحت هذا ، إلّا أنّا بيّنا أن قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) [البقرة : ١٧٨] يدلّ على المنع من قتل الحرّ بالعبد ، وتلك الآية أخص من قوله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) والخاصّ مقدّم على العام ؛ فثبت أن هذه الآية لا يجوز التمسّك بها في مسألة أنّ موجب العمد هو القصاص ، ولا في وجوب قتل المسلم بالذميّ ، ولا في وجوب قتل الحرّ بالعبد.
فصل في المراد بالإسراف
في معنى الإسراف وجوه :
الأول : أن يقتل القاتل وغير القاتل ، وذلك أنّ أولياء المقتول كانوا إذا قتل واحد من قبيلة شريفة ، قتلوا خلقا من القبيلة الدنيئة ، فنهى الله عنه وحكم بقتل القاتل وحده.
الثاني : أنّ الإسراف هو ألا يرضى بقتل القاتل ؛ فإنّ أهل الجاهلية كانوا يقصدون أشرف القبائل ، ثمّ يقتلون منهم قوما معيّنين ، ويتركون القاتل.
والثالث : الإسراف هو ألّا يكتفي بقتل القاتل ، بل يقتله ثم يمثّل به ، ويقطع أعضاءه.
قال القفّال ـ رحمهالله (١) ـ : ولا يبعد حمله على الكلّ ؛ لأنّ جملة هذه المعاني مشتركة في كونها إسرافا.
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٦٢.