الثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من «ربّهم» ، أي : يخافون ربّهم عاليا عليهم علوّ الرتبة والقدرة قاهرا لهم ، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : ١٨].
فصل دلالة الآية على عصمة الملائكة
دلت الآية على عصمة الملائكة عن جميع الذنوب ؛ لأن قوله (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) يدلّ على أنهم منقادون لخالقهم ، وأنهم ما خالفوه في أمر من الأمور ، كقوله (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم : ٦٣] ، وقوله : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٧] ، وكذلك قوله ـ جل وعز ـ : (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦] وذلك يدل على أنهم فعلوا كلّ ما أمروا به ، فدل على عصمتهم عن كل الذنوب.
فإن قيل : هب أن الآية دلت على أنّهم فعلوا كلّ ما أمروا به ، فلم قلتم : إنها تدلّ على أنهم تركوا كل ما نهوا عنه؟.
فالجواب : أنّ كلّ من نهى عن شيء ، فقد أمر بتركه ؛ وحينئذ يدخل في اللفظ ، فإذا ثبت بهذه الآية كون الملائكة معصومين من كلّ الذنوب ، وثبت أنّ إبليس ما كان معصوما من الذنوب ، بل كان كافرا ؛ لزم القطع بأنّ إبليس ما كان من الملائكة ، وأيضا : فإنه ـ تعالى ـ قال في صفة الملائكة : (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) ، ثم قال عزوجل لإبليس (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ (١) مِنَ الْعالِينَ) [ص : ٧٥] وقال : (فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) [الأعراف : ١٣] وثبت أنّ الملائكة لا يستكبرون ، وثبت أنّ إبليس تكبّر ، واستكبر ، فوجب أن لا يكون من الملائكة.
وللخصم أن يجيب بأنّ إبليس لو لم يكن من الملائكة ، لما ذمّ على تركه المعهود من ترك مخالفة الأمر ، ومن الاستكبار ، فلما خالف الأمر ، واستكبر ؛ خرج من حيّز الملائكة ، ولعن ، وطرد ؛ لأنه خالف المعهود من حاله.
قال ابن الخطيب ـ رحمهالله ـ «ولما ثبت بهذه الآية وجوب عصمة الملائكة ، ثبت أنّ القصة الخبيثة التي يذكرونها في حقّ هاروت وماروت باطلة ، فإن الله ـ تبارك وتعالى ـ وهو أصدق القائلين لما شهد في هذه الآية على عصمة الملائكة وبراءتهم من كل ذنب ؛ وجب القطع بأن تلك القصة باطلة كاذبة».
واحتجّ الطاعنون في عصمة الملائكة بهذه الآية فقالوا : إنّ الله ـ تعالى ـ وصفهم بالخوف ، ولو لا أنهم يجوّزون من أنفسهم الإقدام على الذنوب ، وإلّا لم يحصل الخوف.
والجواب من وجهين :
الأول : أنه ـ تعالى ـ حذّرهم من العقاب ؛ فقال (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٢٩] فللخوف من العذاب يتركون الذنب.