فصل
اعلم أنه ـ تعالى ـ أمر برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية ورتّب ذلك على أربع مراتب:
الأولى : قوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) يعني : إن رغبتم في استيفاء القصاص ، فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه ؛ فإن استيفاء الزّيادة ظلم ، والظلم ممنوع منه في عدل الله ورحمته ، وفي قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) دليل على أن الأولى ألا يفعل ؛ كما يقول الطبيب للمريض : إن كنت تأكل الفاكهة ، فكل التفاح ، فإن معناه : الأولى بك ألّا تأكله ، فذكر ـ تعالى ـ بطريق الرّمز والتعريض [على] أن الأولى تركه.
والمرتبة الثانية : الانتقال من التعريض إلى التّصريح ، وهو قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) وهذا تصريح بأنّ الأولى ترك ذلك الانتقام ؛ لأن الرحمة أفضل من القسوة ، والانتفاع أفضل من الإيلام.
المرتبة الثالثة : وهو الأمر بالجزم بالتّرك ، وهو قوله : «واصبر» ؛ لأن في المرتبة الثانية ذكر أن التّرك خير وأولى ، وفي هذه المرتبة الثالثة صرّح بالأمر بالصّبر في هذا المقام ، ولمّا كان الصبر في هذا المقام شديدا شاقّا ، ذكر بعده ما يفيد سهولته ؛ فقال ـ تعالى ـ : (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) أي : بتوفيقه ومعونته ، وهذا هو السبب الكلي الأصلي في حصول جميع أنواع الطاعات.
ولما ذكر هذا السبب الكليّ الأصلي ، ذكر بعده ما هو السبب الجزئي القريب ؛ فقال ـ جل ذكره ـ : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) ؛ وذلك لأنّ إقدام الإنسان على الانتقام ، وعلى [إنزال](١) الضرر بالغير لايكون إلا من هيجان الغضب ، وشدّة الغضب لا تحصل إلا لأحد أمرين :
أحدهما : فوات نفع كان حاصلا في الماضي ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) قيل : معناه : ولا تحزن على قتلى «أحد» ، أي : ولا تحزن بفوات أولئك الأصدقاء وقيل : ولا تحزن عليهم في إعراضهم عنك ، ويرجع حاصله إلى فوات النفع.
والسبب الثاني : أن شدّة الغضب قد تكون لتوقع ضرر في المستقبل ، وإليه الإشارة بقوله : (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) ، ومن وقف على هذه اللّطائف ، عرف أنّه لا يمكن كلام [أدخل] في الحسن والضبط من هذا الكلام.
قوله : «للصّابرين» يجوز أن يكون عامّا ، أي : الصبر خير لجنس الصّابرين ، وأن
__________________
(١) في ب : ترك.