ثم نبه تعالى على قبح التبذير بإضافته إيّاه إلى أفعال الشياطين ، فقال ـ جلّ ذكره ـ : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) والمراد من هذه الأخوة التشبيه بهم في هذا الفعل القبيح ؛ لأنّ العرب يسمّون الملازم للشيء أخا له ، فيقولون : فلان أخو الكرم والجود ، وأخو السّفر ، إذا كان مواظبا على هذه الأفعال.
وقيل : قوله : (إِخْوانَ الشَّياطِينِ) أي : قرناءهم في الدنيا والآخرة كقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦].
وقال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) [الصافات : ٢٢] أي : قرناءهم من الشياطين ، ثم قال تعالى : (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) أي : جحودا للنّعمة ؛ لأنّه يستعمل بدنه في المعاصي والإفساد في الأرض ، والإضلال للنّاس ، وكذلك من رزقه الله مالا أو جاها ، فصرفه إلى غير مرضاة الله ، كان كفورا لنعمة الله ؛ لأنّه موافق للشياطين في الصّفة والفعل ، ثم إن الشياطين كفورون بربهم ، فكذلك المبذّر أيضا كفور بربه.
قال بعض العلماء : خرجت هذه الآية على وفق عادة العرب ؛ لأنّهم كانوا يجمعون الأموال بالنّهب والغارة ، ثم ينفقونها في طلب الخيلاء والتفاخر ، وكان المشركون من قريش وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدّوا عن الإسلام وتوهين أهله وإعانة أعدائه ، فنزلت هذه الآية تنبيها على قبح أفعالهم.
قوله تعالى : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً)(٢٨)
نزلت في مهجع ، وبلال ، وصهيب ، وسالم ، وخبّاب ، وكانوا يسألون النبيّ صلىاللهعليهوسلم في الأحايين ما يحتاجون إليه ، ولا يجد ، فيعرض عنهم حياء منهم ، ويمسك عن القول ، فنزلت : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) أي : وإن أعرضت عنهم عن هؤلاء الذين أمرتك أن تؤتيهم (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها) انتظار رزق من الله ترجوه ، أي : يأتيك (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) ليّنا ، وهو العدة ، أي : عدهم وعدا جميلا (١).
قوله تعالى : (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ) : يجوز أن يكون مفعولا من أجله ، ناصبه «تعرضنّ» وهو من وضع المسبّب موضع السبب ، وذلك أنّ الأصل : وإمّا تعرضنّ عنهم لإعسارك ، وجعله الزمخشريّ منصوبا بجواب الشرط ، أي : فقل لهم قولا سهلا ؛ ابتغاء رحمة ، وردّ عليه أبو حيّان : بأنّ ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها ؛ نحو : «إن يقم زيد عمرا فاضرب» فإن حذفت الفاء جاز عند سيبويه والكسائيّ ؛ نحو : «إن يقم زيد عمرا يضرب» فإن كان الاسم مرفوعا ؛ نحو «إن تقم زيد يقم» جاز ذلك عند سيبويه على أنّه مرفوع بفعل مقدّر يفسّره الظاهر بعده ، أي : إن تقم ، يقم زيد يقم. ومنع من ذلك الفراء وشيخه.
وفي الردّ نظر ؛ لأنّه قد ثبت ذلك ؛ لقوله تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) [الضحى : ٩]
__________________
(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١٢).