وإذا عرفت هذا ، فنقول : حصول ذلك القصد والاختيار ، إن كان بقصد آخر يتقدّمه ، لزم أن يكون كلّ قصد واختيار مسبوقا بقصد آخر ، واختيار آخر إلى غير نهاية ، وهو محال ؛ فوجب انتهاء ذلك القصد والاختيار إلى قصد واختيار يخلقه الله تعالى في العبد على سبيل الضرورة ، وعند حصول ذلك القصد الضروريّ ، والاختيار الضروريّ ، يجب الفعل ؛ فالإنسان شاء أو لم يشأ ، فإنه تحصل في قلبه تلك المشيئة الجازمة الخالية عن المعاصي ، وإذا حصلت تلك المشيئة الجازمة ، فشاء أو لم يشأ ، يجب حصول الفعل ، فالإنسان مضطرّ في صورة مختار.
فصل
دلّت الآية على أنّ صدور الفعل عن الفاعل بدون القصد والدّاعي محال ، وعلى أنّ صيغة الأمر لا لمعنى الطّلب في كتاب الله كثيرة.
قال عليّ ـ رضي الله عنه ـ : هذه الصيغة تهديد ووعيد ، وليست تخييرا (١).
ودلّت أيضا على أنّه تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين ، ولا يتضرر بكفر الكافرين ، بل نفع الإيمان يعود عليهم ، وضرر الكفر يعود عليهم ؛ لقوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧].
قوله : (وَقُلِ الْحَقُ) : يجوز فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أنه خبر لمبتدأ مضمر ، أي : هذا ، [أي] القرآن ، أو ما سمعتم الحقّ.
الثاني : أنه فاعل بفعل مقدر ، دلّ عليه السياق ، أي : جاء الحق ، كما صرّح به في موضع آخر [في الآية ٨١ من الإسراء] ، إلّا أنّ الفعل لا يضمر إلّا في مواضع تقدّم التنبيه عليها ، منها : أن يجاب به استفهام ، أو يردّ به نفي ، أو يقع بعد فعل مبني للمفعول ، لا يصلح إسناده لما بعده ؛ كقراءة : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
الثالث : أنه مبتدأ ، وخبره الجار بعده.
وقرأ أبو (٢) السمال قعنب : (وَقُلِ الْحَقُّ) بضم اللام ؛ حيث وقع ، كأنه إتباع لحركة القاف ، وقرأ أيضا بنصب «الحقّ» قال صاحب «اللّوامح» : «هو على صفة المصدر المقدّر ؛ لأنّ الفعل يدلّ على مصدره ، وإن لم يذكر ، فينصبه معرفة ، كما ينصبه نكرة ، وتقديره : وقل القول الحقّ ، وتعلق «من» بمضمر على ذلك ، أي : جاء من ربكم» انتهى.
وقرأ (٣) الحسن والثقفي بكسر لامي الأمر ، في قوله : «فليؤمن» و«فليكفر» وهو الأصل.
__________________
(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢١ / ١٠٢).
(٢) ينظر : البحر ٦ / ١١٥ ، والدر المصون ٤ / ٤٥٠.
(٣) ينظر : البحر المحيط ٦ / ١١٥ ، الدر المصون ٤ / ٤٥٠.