قوله : (مَنْ حَمَلْنا) : يجوز أن تكون موصولة ، وموصوفة.
قال قتادة : النّاس كلّهم ذرية نوح ـ عليهالسلام ـ لأنّه كان معه في السّفينة ثلاث بنين : سام وحام ويافث ، والناس كلّهم من ذريّة أولئك ، فكأن قوله : يا ذرية من حملنا مع نوح قام مقام (يا أَيُّهَا النَّاسُ)(١) [البقرة : ٢١].
وهذا يدلّ على أنّه ذهب إلى أنه منصوب على النداء ، وقد تقدّم نقله عن مجاهد أيضا.
ثم إنه تعالى أثنى على نوح ، فقال : (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) أي : كثير الشّكر ، روي أنه ـ عليهالسلام ـ كان إذا أكل قال : «الحمد لله الّذي أطعمني ، ولو شاء لأجاعني» ، وإذا شرب ، قال : «الحمد لله الّذي أسقاني ولو شاء لأظمأني» ، وإذا اكتسى ، قال : «الحمد لله الّذي كساني ، ولو شاء أعراني» ، وإذا احتذى ، قال : «الحمد لله الّذي حذاني ، ولو شاء أحفاني» ، وإذا قضى حاجته ، قال : «الحمد لله الّذي أخرج عنّي الأذى في عافية ، ولو شاء حبسه»(٢).
وروي أنه كان إذا أراد الإفطار ، عرض طعامه على من آمن به فإن وجده محتاجا ، آثره به.
فإن قيل : ما وجه ملائمة قوله : (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) بما قبله؟ فالجواب (٣) : التقدير : كأن قيل : لا تتّخذوا من دوني وكيلا ، ولا تشركوا بي ؛ لأنّ نوحا ـ عليهالسلام ـ كان عبدا شكورا ، وإنما يكون شكورا ، إذا كان موحّدا لا يرى حصول شيء من النعم إلّا من فضل الله ، وأنتم ذرية قومه ، فاقتدوا بنوح ، كما أن آباءكم اقتدوا به.
قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) (٤)
لما ذكر إنعامه على بني إسرائيل بإنزال التوراة ، وبأنه جعل التوراة هدى لهم ، بيّن أنهم ما اهتدوا بهداه ، بل وقعوا في الفساد ، فقال : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) والقضاء في اللغة عبارة عن وضع الأشياء عن إحكام ، ومنه قوله : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [فصلت : ١٢].
وقول الشاعر : [الكامل]
٣٣٧٥ ـ وعليهما مسرودتان قضاهما |
|
........... (٤) |
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٨) عن قتادة وورد معناه أيضا عن مجاهد ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٩٤) وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٠ / ١٤٠) عن عمران بن سليم.
(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٢٤.
(٤) تقدم.