ذلك الذي أنزل عليكم : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) ، ومعنى المجادلة عنها : الاعتذار ؛ كقولهم : (هؤُلاءِ أَضَلُّونا) [الأعراف : ٣٨] ، وكقولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ)(١) [الأنعام : ٢٣].
(وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) فيه محذوف ، أي : جزاء ما عملت من غير بخس ولا نقصان ، (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) لا ينقصون.
روى عكرمة عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ في هذه الآية قال : «ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة ، حتى تخاصم الرّوح الجسد ، فتقول الرّوح : يا رب ، لم تكن لي يدّ أبطش بها ، ولا رجل أمشي بها ، ولا عين أبصر بها ، ولا أذن أسمع بها ، ولا عقل أعقل به ، حتى جئت فدخلت في هذا الجسد فضعّف عليه أنواع العذاب ، ونجّني ، ويقول الجسد : يا ربّ ، أنت خلقتني بيدك ، فكنت كالخشبة ، وليس لي يد أبطش بها ، ولا رجل أمشي بها ، ولا عين أبصر بها ، ولا سمع أسمع به ، فجاء هذا كشعاع النّور ، فيه نطق لساني ، وأبصرت عيني ، ومشت رجلي ، وسمعت أذني ، فضعّف عليه أنواع العذاب ، ونجّبني منه ، قال : فيضرب الله لهما مثلا ؛ أعمى ومقعدا دخلا [بستانا](٢) فيه ثمار ، فالأعمى لا يبصر الثّمر ، والمقعد لا يتناوله ، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر ، [فغشيهما](٣) العذاب» (٤).
قوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)(١١٤)
قوله ـ تعالى ـ : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) الآية.
اعلم أنه ـ تعالى ـ هدّد الكفار بالوعيد الشّديد في الآخرة ، وهدّدهم أيضا بآفات الدنيا ، وهي الوقوع في الجوع والخوف ؛ كما ذكر ـ تعالى ـ في هذه الآية.
واعلم أن المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معيّنة ، سواء كان ذلك الشيء موجودا أو لم يكن ، وقد يضرب بشيء موجود معيّن ، فهذه القرية يحتمل أن تكون موجودة ويحتمل أن تكون غير موجودة.
فعلى الأول ، قيل : إنها مكّة ، كانت آمنة ، لايهاج أهلها ولا يغار عليها ، مطمئنة
__________________
(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٨٧) والرازي (٢٠ / ١٠١).
(٢) في أ: حائطا.
(٣) في أ: فعليها.
(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٨٧) والرازي (٢٠ / ١٠١).