طلب الآخرة راجحا على طلب الدنيا تعارض المثل بالمثل ، فيبقى القدر الزائد داعية خالصة لطلب الآخرة ؛ فوجب كونه مقبولا.
وأمّا إذا كان طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين ، أو كان طلب الدنيا راجحا ، فقد اتفقوا على أنه غير مقبول ، إلّا أنه على كلّ حال خير مما إذا كان طلب الدنيا خاليا بالكليّة عن طلب الآخرة.
وأما القسم الرّابع ، وهو الإقدام على الفعل من غير داع ، فهو مبنيّ على أنّ صدور الفعل من القادر ، هل يتوقّف على حصول الدّاعي أم لا؟.
فالذين يقولون : إنّه متوقّف على حصول الدّاعي ، قالوا : هذا القسم ممتنع الحصول ، والّذين قالوا : إنّه لايتوقّف ، قالوا : هذا الفعل لا أثر له في الباطن ، وهو محرّم في الظاهر ؛ لأنه عبث.
فصل في معنى الآية
معنى الآية أنه تعالى يمدّ الفريقين بالأموال ، ويوسّع عليهما في الرّزق ، والعزّ والزينة في الدنيا ؛ لأنّ عطاءه ليس بضيّق على أحد مؤمنا كان أو كافرا ؛ لأنّ الكلّ مخلوق في دار العمل ؛ فوجب إزاحة العذر وإزالة العلّة عن الكلّ.
والتنوين في «كلّا» عوض من المضاف إليه ، أي كلّ واحد من الفريقين.
قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً)(٢١)
«كيف» نصب : إمّا على التشبيه بالظرف ، وإمّا على الحال ، وهي معلقة ل «انظر» بمعنى فكّر ، أو بمعنى أبصر.
والمعنى : أنا أوصلنا إلى مؤمن ، وقبضنا عن مؤمن آخر ، وأوصلنا إلى كافر ، وقبضنا عن كافر آخر ، وقد بيّن ـ تعالى ـ وجه الحكمة في هذا التفاوت ، فقال جلّ ذكره : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) [الزخرف : ٣٢].
وقال تعالى في آخر سورة الأنعام : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) الآية.
ثم قال تعالى : (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) أي : من درجات الدنيا ، ومن تفضيل الدنيا ، والمعنى : أن الآخرة أعظم وأشرف من الدنيا.
أي : أن المؤمنين يدخلون الجنّة ، والكافرين يدخلون النّار ، فتظهر فضيلة المؤمنين على الكافرين ، ونظيره قوله ـ تعالى ـ : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) [الفرقان : ٢٤] قوله تعالى : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً)(٢٢)
لما بيّن تعالى أن النّاس فريقان ؛ منهم : من يريد بعمله الدنيا فقط ، وهم أهل