الأول : أنه لما بيّن في الآية الأولى : أنّه المتكفّل بأرزاق العباد ؛ حيث قال : (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) قال عزوجل : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ).
الثاني : أنه تعالى ، لمّا علم كيفية البرّ بالوالدين في الآية المتقدمة ، علم في هذه الآية كيفية البرّ بالأولاد ، ولهذا قيل : إنّ الأبرار إنما سمّوا بذلك ؛ لأنهم برّوا الآباء والأبناء ؛ فوجب برّ الآباء مكافأة على ما صدر منهم من أنواع البرّ ؛ ووجب برّ الأولاد ، لأنّهم في غاية الضعف والاحتياج ولا كافل لهم غير الوالدين.
الثالث : أنّ امتناع الأولاد من برّ الآباء يوجب خراب العالم ؛ لأنّ الآباء ، إذا علموا ذلك ، قلت رغبتهم في تربية الأولاد ؛ فيلزم خراب العالم ، وامتناع الآباء من البرّ أيضا كذلك.
الرابع : أنّ قتل الأولاد ، إن كان لخوف الفقر ، فهو سوء الظنّ بالله تعالى ، وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعي في تخريب العالم ، فالأوّل ضدّ التعظيم لأمر الله تعالى ، والثاني ضدّ الشفقة على خلق الله ، وكلاهما مذمومان.
الخامس : أنّ قرابة الأولاد قرابة الجزئيّة والبعضيّة ، وهي من أعظم الموجبات للمحبّة ، فلو لم تحصل المحبّة دلّ ذلك على غلظ شديد في الرّوح ، وقسوة في القلب ، وذلك من أعظم الأخلاق الذميمة ، فرغّب الله في الإحسان إلى الأولاد ؛ إزالة لهذه الخصلة الذميمة.
فصل
قرأ العامة «تقتلوا» بالتخفيف ، وقرأ (١) ابن وثاب والأعمش «تقتّلوا» بالتشديد و«خشية» بكسر الخاء.
قال المفسّرون : إنّ العرب كانوا يقتلون البنات ؛ لعجز البنات عن الكسب ، وقدرة البنين عليه ؛ بسبب إقدامهم على النّهب والغارة ، وأيضا : كانوا يخافون أن ينفر الأكفاء عنها ، وعن الرغبة فيها ، فيحتاجون إلى إنكاحها من غير الأكفاء ، وفي ذلك عار شديد.
واعلم أن قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) عامّ في الذكور والإناث ، أي : أنّ الموجب للشّفقة والرحمة هو كونه ولدا ، وهذا الوصف يشترك فيه الذكور والإناث ، وأما ما يخاف من الفقر في البنات ، فقد يخاف أيضا في العاجز من البنين ، ثم قال تعالى : (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) أي أنّ الأرزاق بيد الله ، فكما يفتح أبواب الرّزق على الرّجال ، فكذلك يفتح أبواب الرزق على النّساء.
قوله تعالى : (إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً).
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط ٦ / ٢٩.