ثم وصف المتقين فقال : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) وهذا مقابل لقوله (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) [النحل : ٢٨].
وقوله : «طيّبين» كلمة مختصرة جامعة لمعان كثيرة ؛ فيدخل فيها إتيانهم بالمأمورات ، واجتنابهم عن المنهيات ، واتصافهم بالأخلاق الفاضلة ، وبراءتهم عن الأخلاق المذمومة.
وأكثر المفسرين يقول : إن هذا التّوفي قبض الأرواح.
وقال الحسن : إنه وفاة الحشر ؛ لقوله بعد (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) واحتج الأولون بأن الملائكة لما بشروهم بالجنة ، صارت الجنة كأنها دارهم ، فيكون المراد بقوله : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) أي : خاصة لكم ، «يقولون» يعني الملائكة : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ)(١) وقيل : يبلّغونهم سلام الله.
قوله : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ) يحتمل ما ذكرناه فيما تقدم ، وإذا جعلنا «يقولون» خبرا فلا بدّ من عائد محذوف ، أي : يقولون لهم ، وإذا لم نجعله خبرا ، كان حالا من الملائكة ؛ فيكون «طيّبين» حالا من المفعول ، و«يقولون» حالا من الفاعل ، وهي يجوز أن تكون حالا مقارنة ، أي : كان القول واقعا في الدنيا ، ومقدرة إن كان واقعا في الآخرة.
ومعنى «طيّبين» ، أي طاهرين من الشرك ، وقيل : صالحين ، وقيل : زاكية أعمالهم وأقوالهم ، وقيل : طيّبي الأنفس ؛ ثقة بما يلقونه من ثواب الله ـ تعالى ـ وقيل : طيبة نفوسهم ، بالرجوع إلى الله ، وقيل : طيّبين ، أي : يكون وفاتهم طيبة سهلة.
و«ما» في «بما» مصدرية ، أو بمعنى الذي ؛ فالعائد محذوف.
قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)(٣٧)
قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) الآية.
هذه شبهة ثانية لمنكري النبوة ؛ فإنهم طلبوا من النبي صلىاللهعليهوسلم أن ينزل الله ملكا من
__________________
(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٠ / ٢٢).