خرج نبيهم من بين أظهرهم ، عذّبهم (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) أي : إنّ ما أجرى الله به العادة ، لم يتهيّأ لأحد أن يقلب تلك العادة ؛ لأنّ اختصاص كلّ حادث بوقته المعيّن ، وصفته المعينة ليس أمرا ثابتا له لذاته ، وإلا لزم أن يدوم أبدا على تلك الحالة ، وألّا يتميّز الشيء عمّا يماثله في تلك الصّفات ، بل إنّما يحصل ذلك التخصيص بتخصيص المخصّص ، وهو الله تعالى يريد تحصيله في ذلك الوقت ، ثم تتعلق قدرته بتحصيله في ذلك الوقت ، فنقول : هذه الصفات الثلاث المؤثرة في حصول ذلك الاختصاص ، إن كانت حادثة ، افتقر حدوثها إلى مخصّص آخر ، وتسلسل ؛ وهو محال ، وإن كانت قديمة ، فالقديم يمتنع تغيّره ؛ لأنّ ما ثبت قدمه ، امتنع عدمه ، ولمّا كان التغيّر على تلك الصّفات المؤثّرة في ذلك الاختصاص ممتنعا ، كان التغيّر في تلك الأشياء المقدرة ممتنعا ، فثبت بهذا البرهان صحّة قوله تعالى : (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً).
قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً)(٧٩)
في النظم وجوه :
أولها : أنه تعالى لمّا قرّر الإلهيّات والمعاد ، والنبوة ، أردفها بذكر الآية بالطّاعات ، وأشرف الطّاعات بعد الإيمان الصلاة ، فلهذا أمر بها.
وثانيها : أنه تعالى ، لمّا قال : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ).
أمره تعالى بالإقبال على عبادته ؛ لكي ينصره الله ، فكأنّه قيل : لا تبال بسعيهم في إخراجك من بلدك ، ولا تلتفت إليهم ، واشتغل بعبادة الله ، والدوام على الصلاة ؛ فإنه تعالى يدفع مكرهم وشرّهم عنك ، ويجعل يدك فوق أيديهم ، ودينك عاليا على أديانهم.
نظيره قوله تعالى : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) [طه : ١٣٠].
وقال تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٧ ـ ٩٩].
وثالثها : أنّ اليهود ، لمّا قالوا له : اذهب إلى الشّام ، فإنه مسكن الأنبياء ، وعزم رسول اللهصلىاللهعليهوسلم على الذّهاب إليه ، فكأنّه قيل له : المعبود واحد في كلّ البلاد ، وما النصر والقوّة والدولة إلا بتأييده ونصرته ، فداوم على الصّلوات ، وارجع إلى مقرّك ومسكنك ، فقل : (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) «واجعل لي» في هذه البلد (مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) في تقرير دينك ، وإظهار شريعتك.
قوله تعالى : (لِدُلُوكِ) : في هذه اللام وجهان :
أحدهما : أنها بمعنى «بعد» أي : بعد دلوك الشمس ، ومثله قول متمّم بن نويرة : [الطويل]